الحافلة

تهادتِ الحافلةُ الحافلةُ بالركّاب وهي تتوقفُ عند المحطة القادمة، من دون أن يعرفَ كيف سيدخل كلُّ هذا الجمع الواقفِ عند المحطة، إلى هذه الحافلةِ الحافلةِ بالركابِ. أزاح رأسه صوبَ الشباك، ونظر صوب الجمع الواقف عند المحطة القادمة وتساءل عما إذا كان السائق سيتوقف وسيفتح البابَ لهم، رغم الاكتظاظ الكبير. ثم توقفتِ الحافلة. فتحَ السائق البابيْن، الأمامي والخلفي، وصاح في الميكروفون: “أرجو من الواقفين في الوسط أن يعودوا إلى الخلف”، ثم أعادها مرة ثانية وقد بدأ منسوبُ العصبية يزدادُ.

لم يعُد الواقفون في الوسط إلى الخلف، ليس لأنهم كانوا شريرين أو سيئين، بل لأنه لم يكن مكان في الخلف يعودون إليه. صاح السائق مرة ثالثة في الميكروفون، وكانت عصبيته بائنة وواضحة: “أرجو من الواقفين في الوسط أن يعودوا إلى الخلف”!! في مثل هذه المواقف كان يُفضّل عادةً أن يصطنع النوم، أو أن يُغلق عينيه على الأقل، ريثما تتوقف الدوكة، لئلا يُنظر إليه بازدراء لأنه لا يقوم ويُجلِس مُسنةً أو مُسنًا مكانه. لكنه لا يريدُ أن يقومَ الآن في نهاية اليوم وبعد 12 ساعة من العمل المتواصل.

وكان اعتاد أن يقول لنفسه وهو يرى المُسنين والمُسنات يقفون في الوسط ويكادون يقعون عليه كلما تمايلت الحافلة، مَيْمنةً أو مَيْسرةً: “فليذهب كلُّ المسنين إلى الجحيم. هم يجلسون طوالَ اليوم من دون عمل يُذكر وأنا تُفتح مؤخّرتي في العمل. فليذهبوا إلى الجحيم”!

بعد أن يئس السائق من إمكانية دحش رُكّاب آخرين، أغلق بابَ الحافلة من دون أن يراعي أولئك الواقفين على درجاتِ الحافلةِ والمحشورين بين داخل الحافلة وخارجها. تعالتِ الصيحات من هؤلاء وتعالتِ الصيحاتُ ممن بقوْا خارجَ الحافلةِ مُعلَّقين بين السماءِ والأرضِ، ثم صرخت مُسنة حُشرت كالسردينة بين رجليْن ضخميْن: “ألا تخجل من نفسك؟ ألا تخجل؟ ألا تخجل؟” ثم قال السائق: “يللا أيتها السيدة، إما أن تبقي أو تنزلي! يللا”…

تهادتِ الحافلة رويدًا رويدًا وهي تحاول أن تشُقَّ طريقها الثقيلة في أحد شوارع المدينة الصاعدة نحو الجبل، ثم نظر إلى حوله، وللأمام وللخلف، ثم نظر ثانية. ورغم أنّ الحافلة كانت ثقيلة ومليئة بالركاب حتى الاختناق، إلا أنه لم يَرَ سوى أخيلة شفافة تقف محشورةً في الحافلةِ وتحاولُ ألا تقع إلى أحد الجانبيْن، حين تميلُ الحافلة مَيْمنةً أو مَيْسرةً.

ألقى برأسه على نافذة الحافلة الزجاجية الكبيرة، وكل ما تمنّاه في سِرِّه في تلك اللحظة، لو أنه مات في يوم أكثر هدوءًا…

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *