للخلف دْر!

|علاء حليحل|

ألغيتُ ليلة أمس حسابي في شبكة إنستغرام. كنتُ على وشك إلغاء حسابي في فيسبوك أيضًا، لكنّني تريّثتُ قليلًا. أجريتُ بعض الحسابات السريعة حول مدى تعلقي بفيسبوك واتضح أنّ لهذه الشبكة خيوطًا وروابط متداخلة في حياتي أكثر من كونها شبكة “أصدقاء” لمشاركة الصور والفيديوهات. يبدو أنّ جيلنا الذي بدأ عملية الانحطاط الحاصلة في حيواتنا ما زال بحاجة إلى منصّة تستوعب أكثر من جملتين وعشرين صورة (هل انتبهتم إلى أنّ إنستغرام تبنّت عمليًّا مبدأ عمل موقع “بانت”، مع فارق الجودة في الصور؟). نحن بحاجة للتعبير النصيّ ولتشحيم وتزييت علاقات العمل التي نعتاش منها، إلى جانب تلك الرغبة القائمة فينا “بالاطمئنان” أو “التلصّص” على جيل “فيسبوك” الختايرة، خلافًا لجحافل “الناس الكُول” في إنستغرام. قبل فترة قال لي أحد الأصدقاء الشباب إنّ حسابي في إنستغرام قد رفع مستوى المضامين في حسابه بدرجات كبيرة، بسبب الجُمل التي أنشرها كستوريز عوضًا عن صور “مجبور أعمل حالي مبسوط عشان قوانين كوكب الإنستا”. هل كنتُ سأنشر الصور والريلز “الجذابة” لو كنتُ حقًا أقلّ عمرًا وأقلّ وزنًا وأكثر جاذبيّة؟

السبب الرئيس والأهمّ والمباشر أنّ هذه الماكينة السحريّة تكبشك بقبضةٍ من وهمٍ بأنّكَ relevant دائمًا: يعني أنك جزء من شيء جارٍ وله معنى. وما هو هذا الشيء الجاري والحيّ الذي يعطينا شعورًا بالانتماء والاستمراريّة، إن لم يكن ببساطة تأجيل التفكير في الموت؟.. ستقولون ما العلاقة! قبل عقود أجرت شركة كوكا كولا بحثًا معمّقًا اشتغل فيه عشرات المختصين في علم النفس والمجتمع والثقافة والاقتصاد والسياسة، وطُلب منهم جميعًا التوصّل معًا إلى القاسم المشترك الأكبر للوجود البشريّ من أجل استغلاله لبناء وتدعيم ماركة (براند) الشركة. وبعد شهور طويلة استند التلخيص إلى الاكتشاف البسيط والجاف والبارد: القاسم المشترك الأكبر هو الخوف من الموت. ومن وقتها تتبنى كوكاكولا في دعاياتها شعار “طعم الحياة”، يكون مصحوبًا عادةً بشباب وصبايا يرقصون أو يؤدّون حركات شقية على السكيتبورد وهم في قمة الشبوبية والسعادة. اشرب كولا وانسَ الموت. ما تقدّمه الشبكات المجتمعيّة اليوم هو استمرار لفكرة “الهرب من الموت”، وذلك عبر تدعيم الشعور بالانتماء إلى مجموعة أشخاص يتفاعلون معك، يوفرون لك الاهتمام، يُليّكون ويُشيّرون ويُكَمْتِنون؛ يُشعرونك بأنّك Relevant وذو شأنٍ ومصدر إعجاب وترحيب، بدلًا من الموت الفعليّ الصامت في حياة مجهولة لا أحد يُصفّق لك فيها سوى والدتك (وبعض خالاتك)؟

ويبدو الآن أنّ مصيرنا حُسم؛ لا فكاك من هذه “الأورجي” العملاقة التي حوّلتنا إلى كومبارسات في حفلة فرتواليّة وهميّة لا أوّل لها ولا آخر. كيف يُمكن لكومنت واحد أن يُعكّر صفو أيامنا أو أن يزعزع وجودنا حتى النخاع؟ وكيف تحوّلت حركة الإبهام التي تنزل من أعلى الشاشة إلى أسفلها لعمل “رِفرش” إلى أكثر الحركات التي تبعث فينا الخوف الشديد والتلهف القاتل في اللحظة ذاتها؟! خوف من أنّ لا شيء جديدًا في الوول، وتلهف لانتظار هذا الشيء الجديد كلّ دقيقتيْن. تمامًا كما يشعر المُدمن على القمار الذي ينظر إلى الكرة الصغيرة التي تتدحرج فوق طاولة الروليتا ويعيش خمس ثوانٍ مليئة بالانفعال والترقب و”الحياة”. وماذا يعني لو خسر؟.. فنحن سنموت في نهاية المطاف!

وعليه، فإنّ الوعي لهذه الأزمة قادني إلى محاولة تخفيف الجرعات اليوميّة من هذا… اللا شيء. ماذا سأخسر؟.. ستوري جديدة لـ”صديقة” نشرت فيديو قصيرًا لقدميها وهي تخطو فوق الرصيف؟.. ريل لـ “صديق” يشرح فيه بثقة العارف أهمية الفارق بين آيفون 12 وآيفون أبصر قديش؟.. أنا مضطر للحفاظ على حساب فيسبوك لبعض مصالح العمل والتواصل المهنيّ وبعض التفريغ بنصوص طويلة لا تحتملها باقي الشبكات الخرساء. هذه تسوية أعيها، وقد ألجأ إلى تدعيمها منذ الآن بنصوص أطولَ لا تليق إلا بجماعة الهرمين، مع الحفاظ على المبدأ الراسخ منذ سنوات: لا تطبيق فيسبوك أو ماسنجر في الهاتف النقال.

ولكن، ماذا لو كانت هذه الخسائر أعلاه خسارة حقيقيّة بحقّ وحقيق؟! ماذا لو أنّ هذه الستوريهات التي لا تعني شيئًا في النهاية هي هي الشيء الوحيد المتبقّي لنا في مستقبلٍ كارثيّ وشيك؟… عزاؤنا الأخير ونحن ننظر إلى الكوكب المحتضر عاجزين. ماذا لو كانت هذه الصورة الجديدة لمُسوّقة كريمات سوبر فارم، أو تلك الستوري التي تعرض معجزة تسِحْسِل طفل أحد الأصدقاء للمرة الأولى في حياته، هي الساوند التراك الحقيقيّ لحياتنا، تمامًا كتلك المقطوعات التي أصرّ العازفون في التايتانك على عزفها أثناء لحظات الغرق الأخيرة؟

هل سأغرق “وحدي” من دون هذه الموسيقى؟.. هل سيكون هذا حزينًا ومُحزنًا حقًّا؟.. لا أعتقد ذلك، لأنّنا جميعًا وببساطة سنعيش لحظات الموت الأخيرة وحدنا، مهما كان عدد الأحفاد المُحبّين حول السرير، ومهما بلغ عدد مُتابعينا في شبكات اللا شيء.

صَوِّروا أقلّ، وتأمّلوا أكثر. هذه هو طعم الحياة.

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *