يوميات فلسطيني في الفورد

بشتّى الألوان: حمراء، زرقاء، بيضاء، رمادية. تقطع الطريق بين القدس ورام الله، مرارًا وتكرارًا. الذاهب إلى رام الله (من معهم تصاريح) والعائد منها، كلهم ينتظرون على النواصي، يلوّحون بأياديهم مرة ولا يلوّحون مرارًا، لأنّ السائق يبدأ بالتطبيل والتزمير والإلحاح من بعيد. يكفي أن يلتقط بعينيه الثاقبتين (ولهما استعمال آخر أكثر فائدةً) شبحًا واقفًا من بعيد ليبدأ بسمفونيته الوجودية. الفورد ملكة الشارع… وملكة الشارع هذه تخلّت عن اسم عائلتها “ترانزيت” من زمان. هي الآن “فورد” حاف، من دون مقدمات أو نهايات، أشهر من أن تُعرّف؛ أشهر من أن تحتاج إلى اسم عائلة.

السائق الشاب في بداية العشرينات أو أواخرها، يصفّر أو يدندن باستمرار. لستم بحاجة إلى معرفة اسمه، هو ببساطة “أبو الشباب” أو “خيّي”، ورقم “بلفونه” ملصق بأرقام بارزة على زجاج الفورد. 9 أرقام وهو معكم (أو معكنّ) على الخط: آلو، هنا سائق الفورد… الفورد المطعّمة بالفرو والخشاخش والمسابح الرخيصة: صالون متنقل، وكأنك في بيتك، لم تغادره بعد. بيت حزين…

الفراغ الذي خلفه الاهمال وعدم الانتباه وقلة التنظيم مُلئَ بالفوردات. مئات منها، بل الأف وربما الألفان؛ تحل محلَ السير المنظم والتاكسيات الصفراء القليلة. شيكلان ونصف وأنتم في الطريق إلى مبغاكم. بين المدينة المقدسة وبين رام الله، العاصمة الفعلية للوطن العائد من غربته إلى غربته الجديدة. الجميع يكرههم، وهم في غيّهم: متكبرون، سمجون وثقيلو الظل. فوقهم ومن حولهم ومن تحتهم كاسيتات وكاسيتات: أيهاب توفيق، عمرو ذياب، نجوى كرم، أصالة، نانسي عجرم، أليسا. عصر السرعة يبدأ من مسجلاتهم (المسروقة والله أعلم) لينتهي في أقدامهم الثقيلة فوق دعسة البنزين. أنت إذا صعدتَ إلى الفورد في الصباح فإنك تخاطر بحياتك أكثر من أفراد “حرس الحدود” الذين يحرس بعض من أفراده الحاجزَ في مفرق الضاحية. الكيس المعبّأ بقوانين السير التي وُزّعت على خلق الله فرغ قبل أن يأتي دور الفوردات، فبقيت من دونها. لا تعرف في كثير من الأحيان إذا انتقلت في كبسولة الزمن فجأة إلى لندن، لأنك بعونه تعالى تنتقل (والركاب والفورد معك) إلى الجهة اليسرى من الشارع. لو كان الأمر مشتركًا للجميع لم أكن لأذكره، ولكن السيارات من الجهة المقابلة لا تكون قد وعت بعد أنها في لندن، فتبقى هي الأخرى في اليمين. من هنا يبدأ الصباح في الطريق المؤدية إلى القدس، العائدة منها…

* * *

سيكون مثيرًا حقًا لو أنّ شركة فورد قامت بإحصاء عدد الفوردات التي انتهى بها القدر إلى خط القدس- رام الله. لا شكّ في أنّ تجمع الفوردات هذا سيكون الأكبر في العالم. وسيطة النقل القومية: 11 راكبًا، إثنان بجانب السائق، ثلاثة من ورائه، إثنان في الوسط وأربعة في الخلف. أحد عشر كوكبًا تراهم ساجدين للقمر القابع خلف المقود. أحد عشر شخصًا يسلمون أنفسهم لشاب لم يتعدَّ المراهقة وهو في الثلاثين من عمره: إلى جانب يده اليسرى “ركّاية” مغلفة بالصوف الرخيص، وإلى جانب يده اليمنى علبة نحاسية فيها غلة اليوم: شيكلات، أنصاف شيكلات، عشرات الشيكلات. تتراقص بحسب وتيرة السير السريعة، تتمايل مع جسد الفورد المنهك وتتحول إلى خلفية مرافقة للأصوات الأخرى: فتاتان تتهامسان في المقعد الخلفي؛ شابان أمامهما يحاولان الاستماع إلى الهمس؛ عجوز مسنة “تتدعّى” للشاب النخوجي الذي دفع عنها الأجرة؛ شاب من معارف السائق يتبادل معه آخر الأخبار من مقعده في آخر الفورد. خليط غريب من البؤس والجمود يرافق رحلة الشعب الفلسطيني بين مدينته التي تربي ضفائرها الحداثوية إلى مدينته الأخرى التي قصوا لها ضفائرها. والحاج الذي صعد للتوّ لا يعرف ما يفعل باللعاب الذي استنشقه من حنجرته الملأى بالقطران والغبار، فيبتلعه على مضض…

الناس على دين فورداتهم: ما خلفته ثلاثون سنة من الاحتلال يقبع الآن في زوايا الفورد مادًا لسانه للجميع. رائحة العرق تختلط برائحة الخمول وعدم الاكتراث: الاسرائيليون أعادوا (3%) من مناطق B؟.. “قمرين دول ولا عنيك؟”؛ الرئيس سجن نائبين من المجلس التشريعي؟.. “سحراني ليل ونهار”؛ المفاوضات عالقة؟.. “والهوى طاير طاير”. الدولة في الطريق، الميزانيات في الطريق، المغتربون في الطريق، الشعب في الطريق، يسلم أمره للفورد، يلعق جراحه في الفورد، يرثي حظه في الفورد، واللي مش عاجبو، يشرب من بحر غزة!

* * *

– تفضل أبو الشباب..

– (بعد برهة) أنا لا آخذ الأغورات. (يعيدها إليّ الذي من أمامي. أبحث في جيوبي فلا أجد إلا ورقة من فئة المئة. أبعثها إليه. تعود إليّ مجددًا.)

– معيش صرافة، يقول الصوت المختبئ خلف الكرسي المرتفع، أمام المقود الكبير.

(لا أحير صنعًا فأتصنّع التفتيش في جيوبي ثانية.)

– معكاش نُص شيكل؟.. يأتي الصوت من الأمام..

– لا، أقول متهيبًا…

– الله بعوّض. (أصمت خجلا وأحاول أن أقرأ في الجريدة.)

– شعب متأخر، يأتي الصوت من جانبي، أتطلع إليه بلا تعبير خاص.

– نحن شعب متأخر، يعيدها بوضوح ولا ينتظر الجواب: هل الأغورات ليست نقودًا تشتري وتبيع؟..

أبستم بتفهّم. أعاود النظر إلى جريدتي: “المفاوضات مع سوريا ستتجدد”…

“وحشتني”…

* * *

حدثني صديق فقال: درَجَ عند سائقي الفوردات، في الآونة الأخيرة، أن يلصقوا مرآة صغيرة في الأسفل، عند قدمي الجالسين إلى جانبهم. ففي حالة صعود فتاة تلبس تنورة فإنّ بإمكان السائق أن يسترق النظر إلى ما تيسّر من ساقيها، من دون حتى أن يتعرض للإحراج من نظرات الاحتقار، التي لا تُخجل أحدًا في الواقع. ليس من السهل أن يكون المرء فتاة من دون سيارة في هذه البقعة من المكنونة. لا أحد في الفورد يرحم: السائق يختار الأغنية المناسبة عند صعود فتاة ما ولا يتوقف عن تعديل المرآة حتى نزولها؛ الشاب الجالس بقربها يصبح بأمر من الله بليد الحركة ولا يقوى على الابتعاد قليلا عنها؛ النظرات من خلفها تتناوب على السفر بين عنقها وظهرها؛ لو كنت فتاة من دون ما يكفي من المال لشراء سيارة، لاشتريت دراجة هوائية أقضي بها مشاويري. ولكن، في تفكير ثانٍ، كنت سأتخلى عن الفكرة. فسوف يصبح اسمها عندها: تلك التي تركب الدراجة، وستصبح هدفًا سهلاً للغمز واللمز، ولن يشفع لها حتى الشيوخ الأفاضل؛ فهي تركب الدراجة- ويا للهول!! المعادلة بسيطة: الموت أو الفورد. الجميع يخترنَ الفورد، وقلبي معهنّ…

* * *

في هذه البقعة من المكنونة لا أحد يهتم بأحد. النظرات تنسكب عبر الشبابيك الواسعة تبحث عن أي شيء تتسلى به؛ النظرات في داخل الفورد تبحث عن أيّ شيء يتسلى بها. والدخان مسموح في معظم الحالات، العزومات تتردد داخل فضاء الفورد والسجائر تتطاير بسرعة فوق الرؤوس. والقداحة أيضًا. والارشادات لكيفية فتح الشباك المهترئ أيضًا. والبرد اللاسع أيضًا. والسعال المقزز أيضًا. والحاج نفسه لا يتعلم من أخطائه: لا يعرف مرة أخرى ما يفعل باللعاب اللزج الذي استنشقه من حنجرته الملأى بالقطران والغبار، فيبتلعه على مضض، مرة أخرى.

* * *

الأزمة الصباحية خانقة. زمامير ضاجة، أعصاب منفلتة. سيارة صغيرة منقلبة على ظهرها في وسط الشارع: لم ينم في ليلة الأمس بالتأكيد. شرطيان من “حرس الحدود” ينظمان السير بكسل، فليس هناك ما يدعو للتعجل: الجميع عالق بين القدس ورام الله، وهذا لا يُبثّ في “ريشت بيت”. ولا في راديو “أمواج” أو “صوت الحب والسلام”. لا يُبثّ في أي مكان، ولا يعني أيّ إنسان إلا ركاب الفورد. “الله يستر” تتمتم الحاجة بخوف. “بسيطة”، يردد الحاج برزانة، “بسيطة”. في الواقع هي بسيطة بالفعل: ليس أبسط من ذلك: 11 شخصًا في وسيطة السفر القومية، كلٌ ذاهب إلى شأنه، ينتظرون انفراج الأزمة من دون اهتمام ظاهر. ربع ساعة أخرى، ولن تقع خشبة من السماء. السائق (المعجب بمسجله الجديد) يقلّب الكاسيت ويأتي صوت الصديق من الخلف: “معاك ولا واحد ولا ميه؟”.. “طبعًا، ولو..” يبتسم السائق في المرآة. أبتسم أنا أيضًا: ولا واحد ولا ميه ولا حتى مئة ألف سيغيّرون شيئًا في هذا الصباح الخريفيّ؛ الأزمة تنبح والسيارات تنبح والمسجل الجديد ينبح- والفورد تسير!

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *