ريما

هذه هي المرة الأولى التي أحاول أن أحصر بعضًا منك في النص. تبدين غريبةً عن اللغة، وأنت بالكاد تتهجئين أولى كلماتك وشتائمك. معجزةٌ ما يستطيع الأطفال اللي في سنّ حضرتك أن يصنعوه باللغة. بالكلمات العادية السخيفة. تصبح في فمك إنجازًا يستحث الاصغاء والتسجيل والضحك والمباهاة. خاصةً إذا كان الشخص المتباهي هو السعيد السعيد الذي نطقت أمامه بهذه الكلمة أو تلك، للمرة الأولى. يكون السعيد السعيد.

هذه هي المرة الأولى التي أكتب فيها لشخص أعرف أنه لن يقرأ ما أكتب ولن يصغي لي وأنا أقرأ، لأن كلماتي لا تعنيه. هذه هي المرة الأولى التي لا يعيرني فيها شخص أكتب له الاهتمام الكافي. كأنك تمدين لسانك للقلم والورقة واللغة. تقولين لنا: كلامكم لا يهمني. هل جلبتم الهدايا؟

الكلمات معك أقوى وأنضج. للحروف المتلاحقة السريعة من فمك الصغير إستقلالية متناهية: الراء هي لام، والسين ثاء والحروف التي قبل تصبح بعد، والتي بعد تصبح قبل. ونحن ننظر إلى فمك الصغير ونكاد ننفطر حبًا وسعادةً: كأنك تعيدين صياغة الأشياء من جديد: هذه “تنتا” وليست “شنتا”؛ هذا “بوندو” وليس “شامبو”؛ وهذه “بغليه” وليست “بكلة”؛ هذا “سِميير” وليس “سمير”؛ هذا “نام” وليس “هشام”.

كومة سوداء من اللحم وزعيق لا ينتهي كنتِ، وكنتِ شرسةً وعصبيةً، وما زلتِ، وكنتِ جسدًا طريًا محشوًا في بامبرز مليء بالبراز، وكنتِ اسمًا جديدًا أضيف إلى قائمة معارفي فصرتِ من أهمهم، وكُنتِ همًا جديدًا من البكاء في المقاهي وقبل النوم وبعد النوم وبين النوم، وكنتِ فرحًا مكبوتًا لا نعرف كيف نعامله، فإذا أطلنا حمَلانكِ بكيتِ، وإذا قصّرنا منه غضبتِ، وإذا خرجنا بك إلى الشارع انتفضتِ، وإذا عدنا بك إلى الداخل انطلقت بالنواح. كنتِ نقطة فرحٍ في عالم سيئ، وما زلتِ؛ كنتِ لحظة شوقٍ إلى اكتشافك، وما زلتِ؛ كنتِ الناهية الآمرة، وما زلتِ؛ كنتِ السبب الرئيسي في تعلّم العيش مع رائحة البراز، وما زلتِ.

ريما؛

أنت لا تعرفين الآن أنك مسؤولة مسؤوليةً كاملةً عمّا حدث لنا. حتى إنّ الناس صاروا ينادوننا: ريما والمجموعة. صرنا ديكورًا في مسرحيتك المستمرّة الصاخبة. صرنا حالةً من الترقب الغريب الشّائق لكلّ جديد تأتي به ريما. صرنا مثل المسنين في دور العجزة الذين يهزّون رؤوسهم أمام نشرة الأخبار يمينةً ويسرةً، صرنا نهزّ رؤوسنا بتعجب يمينة ويسرة، عندما نسمع عنك قصة جديدة: “ينعن ديك ريما”. صرت أحسّ بأنني مُسنٌ بائس. لا أمتُّ للشباب بصلةٍ. صار حضورك الدائم في غرفتي وعلى السّطح مثل القدر اليوميّ اللذيذ. كدتُ أطير من الفرحة حين استيقظت يومًا من قيلولتك وصرت تنادين من غرفتي عليّ بإسمي، كأنك صاحبة البيت. صرت أخاف جدًا من الزواج وإنجاب الأطفال، لأنّ أيّ شيء لن يكون بمثل ذكائك وتميزك سيكون فشلا ذريعًا. وأنت لا ترضين بهزيمة آل حليحل أمام دار الزعبي…

يقولون إنّ الحرب على الأبواب. هذه ستكون حربك الأولى. أريد أن أطمئنك بأن هذه لن تكون الأخيرة. نحن نعيش في بقعة ملعونة، وكم وددت لو أنك خلقت في بقعة أخرى من العالم. أنت لا تعرفين بعد أنكِ فلسطينية، وما سيفعله هذا بحياتك. في المظاهرات الأخيرة، حين كنتِ تحملين علم فلسطين وأنت بين ذراعيّ، شعرتُ بالحزن. ولكن بعد برهة شعرت بالحزن على هذه الدولة، لأن “الشاباك” لن يستطيع يومًا أن يعرف ما ستفعلينه بهم في المستقبل. ريما الديناصور…

عندما تقرئين هذه الورقة بعد سنوات طويلة، سأكون أنا وغالبية المجموعة قد متنا. فمن سينجو من الرصاص في المظاهرات لن ينجو من سرطان الرئة أو من الأيدز أو من السكتة القلبية، أو من تلفان الكبد، أو من تفاهات رُوّاد شارع أبي النؤاس. نحن هكذا، نعيش قليلاً ولكن نعيش كثيرًا. كما أراكِ الآن، لا بد أنك ستعيشين كثيرًا وستعيشين طويلًا. ولا أستطيع إلّا أن أشفق على هذا العالم الذي سيضرب ناقوس الخطر في كلّ مرة تسكرين فيها أو تحششين.

قبل حوالي نصف السنة ولد ابن خالتك محمود. بالنسبة لي اكتملت حياتي: طفل وطفلة وأصدقاء كُثر. لم يتبق لي إلا البحث عن عمل ثابت وبيت ثابت وحلم ثابت ومستقبل ثابت. وكلما ستكبرين أكثر ستعلمين أكثر، أن المرء منا، مهما كان وحيدًا، فإنه يمارس نفسه مع وعلى الآخرين. هذا ما نفعله معك منذ سنتين. وأنت ما تفعلينه منذ سنتين، هو ممارسة تياسة رأسك على كل من يعترض طريقك.

قبل أيّام صرت تقولين “بحبك”. تقولينها لأمك ولأبيك ولسامي أيضًا. لم تقوليها لي بعد. سأحبسك في غرفة صغيرة مليئة بالجرذان، وسأضع على رأسك كيس خيش إلى أن تقولي لي بحبك. وإذا لم تقوليها فسأتوقف للأبد عن شراء بيضة الشوكلاطة لك من عند “دابِد”…

كل عام وأنتِ بخير، وثورة حتى النصر…

(كُتب هذا النص لمناسبة عيد الميلاد الثاني لريما زعبي)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *