رصاصة

العزيزة فلنتينا؛

برصاصةٍ واحدةٍ، تحولت الى مفرد بصيغة الجمع. فالذي أطلق عليك الرصاص كان ينوي قتل الجميع، ولكنه أصابك أنت؛ والذين أرادوا تعطيل الحناجر أرادوا إسكات الجميع، ولكنك أنت من صرختِ. رصاصة في ذراعك. رصاصة في ذراعك الأيسر الذي درّبَ أطفالاً أحبوك، ليصيروا ممثلين صغارًا، أو على الأقل، محبين للتمثيل… الرصاصة التي أصابتك كانت موجهةً ضدنا، وضد كل من كان هناك. وهذه لن تكون الرصاصة الأخيرة. كقول الشاعر أمل دنقل:

“إن سهمًا أتاني من الخلفْ

سوف يجيئك من ألف خلفْ”

لا أريد التشاؤم زيادةً عن اللزوم، ولكن يبدو أن الرصاصات الآتية، آتيةٌ لا ريب!

اليد هي لسان الجسد. إذا تعطلت تعطل، وإذا كبتْ كبا. فكم بالحريّ عند الذين يدهم لسان جسدهم ولسان روحهم ولسان قدراتهم… كيف الوقوف على المسرح واليد ليست طيّعةً بعد؟ هل، إلى أن يأتي الشفاء، هل عليكِ أن تنظري الى الخشبة من مواقع المتفرجين؟ المتفرجون هم أحباب المسرح، ولكن في حالتك، أن تكوني متفرجةً يعني أن نكون جميعًا غارقين في عجزنا. ننظر ونصمت. نسأل عن أخبارك وندير وجهنا حرجًا. فكيف العزاء وكيف تُقال الكلمات من دون أن تنكص العين نظرها، باحثةً عن حفرةٍ تدفن فيها النظر؟

فلنتينا؛

معذرةً ما إذا انشغلنا بمشاغلنا، ولم نكن معك كما يجب. فأنت تعرفين أكثر منّا كم نحب بعضنا البعض، ولكنك تعرفين أكثر كم نكره هذه الدنيا. وبين هذا الحب وتلك الكراهية، نُراوح بين الصمود في الفراغ وبين التقهقر في العدم. من يسمعني يعتقد أنني أرثي أحدًا ما. وهذا غير صحيح أبدًا. أنا أمتدح وجعك الذي يصر على أن نتعلم منه الآن. ولكنني، وأنا أحضّر هذه العجالة لأقرأها الآن، فكرت في لو أنني أنا أيضًا تلقيت رصاصة في ذراعي. فماذا سأفعل بين الحيطان؟ كيف سأكتب روحي نُتفًا على شاشة حاسوبي؟ للحظةٍ، فرحت بأنني لم أكن هناك، في المظاهرة إياها، ولم أتلقَ رصاصةً. لا أعرف ما إذا كان هناك من هو مستعد لتلقي الرصاصة بدلاً منك. ولكننا الآن، وأكاد أقول جميعنا، مستعدون لربط يدنا، كل واحدٍ لشهرٍ كاملٍ، وبالتناوب، إذا كان هذا سيطلق يدك أنت في وجه مآسي شكسبير ثانيةً…

يقولون إن الضربة التي لا تقتلك، تقويك. ولكن هل يحتاج الناس الأقوياء، أيضًا، الى ضرباتٍ كهذه؟ كم من الفرح تنحى وسيتنحى جانبًا من أجل أن تخرجي من هذه الاصابة أقوى من السابق؟ كم من الفرح أخلى مكانه للألم واليأس؟ أنت وحدك تعرفين. أنت وحدك.

سنتفرق بعد ساعة أو أكثر. سنعود الى مشاغلنا، وستعود مشاغلنا الينا. سننسى لبرهةٍ كم هو من الصعب علينا ألا نُصاب بالجنون، في أرض الجنون هذه. ملعونةٌ الأرض، مسحوقةٌ كل المقدسات والمحاج والرموز التي تشل يد فنانةٍ كانت ترفعها عاليًا في وجه الجهل. الجهل، عدونا الأكبر… بكل وعي ومسؤولية، ومن دون تأتأة، ومن دون مواربة، ومع كثيرٍ من التحدي، أقول لمن يود أن يسمع: خذوا القدس وأعيدوا يد فلنتينا. لسبب واحد بسيط: القدس لا تنفع شيئًا من دون أناس يبنونها. يدك فلنتينا، وأيدينا جميعًا، أشرف من كل الحجارة التي تشرب دماء البشر ليلَ نهارَ…

(ألقيت هذه الكلمة في أمسية تضامنية مع فلنتينا أبو عقصة في مقهى فتوش في حيفا، بعد إصابتها برصاصة أثناء اجتياح المدن الفلسطينية عام 2002)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *