عكا بين “الجزّار” و”بونابرت”/ عمر شبانة

cover-1.indd

|عمر شبانة|

الرواية هي أكثر الأدوات قدرة على التلاعب بالتاريخ ووقائعه. وهذا ما فعله الروائي الفلسطيني علاء حليحل في روايته الجديدة “أورفوار عكا”، حين أعاد أحمد باشا الجزّار إلى أصوله الألبانيّة، مُغيّراً واقعة دفنه في فلسطين التي مات فيها ودفن في المسجد الذي يحمل اسمه فيها. (ولد في البوسنة لأسرة مسيحية 1735، وحكم ساحل فلسطين والشام أكثر من 30 عاماً، ولولا وفاته 1804، لتولى حكم مصر قبل محمد علي الذي حكم مصر بين عامي 1805 و 1848).

وربّما كان الأكثر جذباً للاهتمام في الرواية، هو الصور والمشاهد التي تعبّر عن علاقة الجزّار بالشعب، فهي علاقة الدكتاتور الذي يغطي على المشهد كلّه، ليغيب الشعب/الضحيّة، ضحية الزعيم القويّ القاسي، ولكنه الزعيم “الجزّار”. لذا لن يظهر في الرواية سوى هذا “البطل” في مواجهة “البطل” الآخر (نابليون)، ومن يدور في فَلَكهما من شخوص “مُكمِّلين”.

تنطلق الرواية من واقعة استقدام سفينة محمّلة بالمومسات، لمساعدة جيش نابليون بونابرت في حصاره الشهير والمرير لمدينة عكا، لتشكّل هذه الواقعة محورا أساساً في الرواية من جهة العلاقة بالمرأة، حيث حصر المؤلف حضور النساء في خانة الاضطهاد والقتل والاغتصاب، فالمرأة هنا أداة للمتعة والترفيه والتنفيس، ليس فقط عن الجنود الذين يحاصِرون المدينة، بل وأساساً عن مكبوتات الجزّار نفسه، مكبوتات كثيرة تكشف الروايةُ عنها، تعود إلى أصول الجزّار وسيرته، منذ اغتصابه زوجة أخيه وهروبه من بلاده ألبانيا، وعبوديته، وصولاً إلى أن يتسلّم الحكم على سواحل فلسطين والشام.

هنا، يتحوّل الحصار الطويل لعكّا (1798-ـ 1799)، والصّمود العنيد، بل البطوليّ، لأحمد باشا الجزّار داخل أسوارها المنيعة، إلى فرصة لمحاكمة هذا “الجزّار” والدكتاتور الكبير، وتقديمه على نحو لم يسبق تقديمه به من قبل، على الصعيد الإنسانيّ بأبعاده المتعددة، حتّى لا نعود نعرف، نحن قرّاء هذه الرواية “إلى اللقاء عكّا”، أين هو التاريخيّ وأين هو المتخيّل فيها. فقد أراد حليحل أن يقدّم روايته وتأريخه هو لهذا الحدث، ولكن بتفاصيل ورؤية ونتائج مختلفة. لكنّ السؤال المحوريّ هو “هل نقف مع “الجزّار” ودمويّته، ضد بونابرت الغازي؟ هل هو انعكاس لموقفنا الراهن من الحاكم العربي الدكتاتوريّ وهو يدّعي الدفاع عن “بلده” في وجه الغزو الخارجيّ؟

صحيح أن أحمد باشا الجزّار كما درسناه وقرأنا عنه، شخصيةٌ تجسّد الرعب الذي روي عنها وأكثر، تطير من حوله الرؤوس تماماً كما يُبقي على حيواتٍ لأسباب منفعية.. لكننا في الرواية هذه نصل، في آخر المطاف، إلى مشاهد ومداخلات نفسية لا تخطر بالبال، حيث تضع الماضي في مرآة الحاضر الراهن، وترى عكّا الآن من خلال شخصية الجزّار.

في إحدى القراءات، يبدو الوضع وكأنّ “فرنسيًّا” (هو بونابرت) وألبانيًّا (هو الجزّار) يتصارعان من أجل السيطرة على مدينة فلسطينية في طريقهما للبحث عن ذاتيْهما، فنقرأ منذ الفصل الأول مقطعاً من شخصية كل منهما في حديث عميل فرنسي يتطوع لقتل الجزّار والتخلّص منه، لكنّه يظلّ متردّداً حتى يجري القبض عليه، غير أنّه يخبر عمّا سيحدث في حال الانتهاء من الجزّار: بطعنة واحدة سيدخل التاريخ، طعنة واحدة وسترتاح الأيالات من هذا الجزّار المجنون، طعنة واحدة وسينتهي حصار الفرنساوية على مدينته، وسينتهي كلّ شيء. لن يهبّ أحد لإكمال مشوار هذا الجزّار، فالجميع يكرهونه، حتى معاونوه ومساعدوه وحاشيته. ألم يقطع آذانهم ويجدع أنوفهم لأتفه الأسباب … سيدخل بونابَرت عكا بسلام، وسيحفظ أهلها كما فعل في حيفا، وسيُدخل المطابع والجرائد والمسارح، وسيجعل من أهل هذه البلاد أمة تقرأ وتكتب. لماذا يكرهون الفرنساوية إلى هذا الحدّ؟ هل الأتراك أفضل منهم؟”.

أحد الأسئلة الأساسية للرواية هو: هل يعقل أنّ الجزار، بكل سطوته وجرائمه، لا يمثل الشر المطلق، وهل هو شخصية تراجيدية في النهاية يمكن التماهي معها؟ هذا السؤال تجيب عنه تفاصيل حياة هذه الشخصية المركبة في تحوّلاتها داخل الرواية، إذ يتحوّل الجزّار من شخصية تاريخية كريهة إلى شخصية أدبيّة لها عالمها وصراعاتها وأفكارها ونقاط ضعفها. شخصيّة أدبيّة مختلفة عن الشخصية التاريخيّة، وهذا جزءٌ من لعبة الخيال والواقع في العمل الأدبي.

وكما نجح المؤلّف في “اختراع” جزّار(ه) الخاص، ينجح في ابتكار شخصيات لا يمكن الشك في واقعيّتها، فشخصية الخازوقجي عبد الهادي تمثل شخصاً يصعب نسيانه، فهو أشهر “خازوقجي” في زمن المنطقة. يقوى على استنزاف ضحيته لأربعة ايام متواصلة مثلاً، والهدف من الخوزقة ليس القتل، وإنما العقاب. شخصية حقيقيّة، رغم أنها من وحي خيال الكاتب، ليتساءل من خلال حضورها: هل من المعقول الافتراض أنّ هذه الشخصية كان يمكن أن تكون حقيقية في ذلك الوقت؟

ولعلّ القراءة العميقة لقصة سفينة النساء الفرنسيات المتطوعات للترفيه عن الجنود، كما جاء في حوار مع الكاتب، تجعلنا نعيد قراءة مفهوم “جهاد النكاح” بأدوات السلطة، بدلاً من احتكار التفسير الديني له اليوم، فهو يسميه جهاد نكاح “بار إكسيلانس”، معتبراً أنّ كل أجهزة المخابرات في العالم تستخدم عميلات جميلات من أجل الإيقاع بشخصٍ ما، وهُنّ في نهاية الأمر يقمن ببساطة بالنكاح في خدمة الوطن، تمامًا كما ناجت بائعة الهوى برناديت نفسها في مطلع الرواية.

(كاتب وشاعر أردني؛ عن ملحق الكتب في “العربي الجديد”)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *