عندما تغرق الرواية في السياسة وتتلاعب بالتاريخ/ خالد الحروب

|خالد الحروب|

«أوروفوار عكا» لعلاء حليحل الفلسطيني، و«غرافيت» لهشام الخشن المصري روايتان صدرتا هذا العام، تختلفان كثيراً، لكن تتشابهان في وطأة حضور السياق التاريخي والسياسي للحدث والسرد الروائي الذي تطرحه كل منهما. مناخ الأولى وزمانها مدينة عكا خلال حكم الوالي العثماني أحمد الجزار باشا وحصار نابليون لها، والثانية زمنها ممتد من مصر في عشرينات وحتى سبعينات القرن الماضي. يتلاعب الروائيان المبدعان بالتاريخ والأحداث ويعيدان ترسيمها حول أبطالهما وشخوص روايتيهما. الشخوص هم الأسياد الأول في النص، هم الأوتاد التي لا تتزحزح وما يأتي بعد ذلك من أمكنة وأزمنة وأحداث يتم تنظيمه وتركيبه حولهم. الرواية لعبة جميلة، وممتعة، باطشة، ولئيمة في آن واحد.

تعيد هاتان الروايتان، وغيرهما كثير، طرح السؤال المحير: كيف لنا أن نقرأ (وننتقد) نصاً روائياً ناجحاً ويستحق التوقف عنده وهو غارق في السياسة أو التاريخ السياسي، أو منطو على جزء كبير منهما؟ وأين يتموضع هذا النص فنياً وأدبياً وجمالياً، إذ يتماحك بمهمة المؤرخ، أو قد تفيض من بين سطوره رغبة جامحة في تسطير موقف سياسي والدفاع عنه؟ تتفاقم صعوبة هذا السؤال في الرواية التاريخية البحتة التي توغل في الزمن وتغرف منه واقعة أو أحداثاً ما لتثير خصب خيالات الروائي أو الروائية، وتتداخل الخيالات بالوقائع، وتتجاور شخصيات حقيقية مع أخرى تخلقت في النص (كما في «أوروفوار عكا»).

ولأن الرواية تستهوي القراء وتغريهم أكثر مما يستهويهم ويغريهم كتاب السياسة أو التاريخ، فإن الشَرك يبدو جلياً. يتسلل الروائي إلى هذه الحقول ويقوم بتهريب ما يريد من تمثلات وتأمل وأفكار وربما مواقف. ويمنح نفسه سلطة وشرعية متفردة في طول النص وعرضه معلياً قدر شأن أو فرد هنا، وحاطّاً من قدر شؤون وأفراد آخرين هناك. الروائي في نصه هو السلطان الطاغية، المُستبد غير العادل. بجملة إبادة واحدة يقضي على شخص أو… شعب، ويغير تاريخ حدث أو أحداث، وبجملة إحياء واحدة يمنح شخصاً آخر أو شخوصاً، أو حدثاً، أو زمناً أو أمكنة، مركزية لا يستحقها أي منهم. يتخفى كل ذلك البطش بالمكان والزمان والوقائع خلف «روائية» النص وجمالياته. المُسوغ الكبير والمُنطوي على قدر غير قليل من الإفحام هو القول إن ما يُكتب هنا ليس تأريخاً ولا سياسة، بل هو سرد روائي اتكأ على وقائع الحياة من ظروف وسياقات فيها من الاجتماع والثقافة ما فيها من السياسة والتاريخ، ما لا بد من تمثله وانعكاسه.

يعيد هذا النقاش (القديم، الجديد) فرض ذاته في مشهد الكتابة الإبداعية العربية الراهنة، حيث الرواية تواصل احتلال مساحات كبيرة ومركزية خلال السنوات الأخيرة. وفي قلب ثيمات فيض من الروايات العربية تقع السياسة والتسيس والتأريخ الحديث. وهذا كله كأنه يستدعي إعادة تقليب المناهج والمقاربات النقدية، كلاسيكيها وراهنها، بخاصة ما يفيد منها في مسألة تمايز الأدبي الجمالي عن الثقافوي السياسي – من أطروحة «موت المؤلف» وتسيّد النص والتناص لرولان بارت (1968) إلى فكرة «موت الناقد» وتسيّد القراءات العابرة وغير المختصة التي اشتهرت مع رونان مكدونالد (2007). بعيداً من رطانة اللغة التخصصية يمكن صوغ المسألة كالآتي: أين هي حدود التداخل والتقاطع بين السرد الروائي والتضمين السياسي والتاريخي من ناحية، وكيف ينعكس ذلك على النقد فيتقدم الجمالي على الثقافي أو العكس؟ قد يفيد التأمل في الروايتين المذكورتين ومن منظور هذا السؤال المركب.

الحرية التي يستدعيها الروائي لصوغ وتشكيل الزمان والمكان والشخوص تكاد تكون مطلقة. «أورُفوار عكا» تقدم مثالاً جلياً هنا. فالروائي لا يقف عند حدود ما كان وما حدث، بل يضيف تاريخاً متخيلاً من عنده، سواء في شخصية بطل الرواية أحمد باشا «الجزار» أو «نابليون» ويرسم من عنده وقائع وامتدادات مثيرة، في الربع الأخير من القرن الثامن عشر. هنا، يرسم علاء حليحل صورة لعكا وهي تحت سيطرة الجزار وحكمه: الحاكم الباطش والمستبد وقاطع الرؤوس. ما تلتقطه الرواية هو تلك اللحظة الحاسمة في تاريخ الجزار وعكا المتمثلة في حصار نابليون لها. الحاكم الذي اشتهر عنه انهماكه في جزر الناس من مصر إلى الشام وفلسطين، مُهاب الجانب ومجرد ذكر اسمه يدبّ الرعب في النفوس. يحوله حليحل إلى شخص مهزوز، عديم الثقة في المستقبل، يبكي على حياته وعمره الذي أهدره بعيداً من حبه الأول في البلقان، أيام مسيحيته، وقبل أن يتحول إلى الإسلام. يحسد نابليون عبر التجسس على خطاباته إلى جوزفين عشيقة هذا الأخير، على صبواته وتمسكه بالحياة والغرام حتى في ذروة خوضه المعارك. بعيداً من الاثنين «الكبار» في الرواية، هناك قائد عسكري بريطاني يخوض الحرب إلى جانب الجزار ضد الفرنسيين، وهناك وزير ماليته اليهودي. بقية الناس وأهل عكا غير موجودين. لا ملامح لهم. مطحونون، وموزعون بين تأييد الجزار الوالي المسلم، لكن المستبد الطاغية ضد نابليون الكافر، أو تأييد هذا الأخير على أمل أن ينقذهم من براثن الوحش الكاسر. هنا وفي هذا التصوير يضطرنا الكاتب لإزاحة الأدبي في النقد وتقديم الثقافي. أما وأنه أعاد تركيب التاريخ والسياسة خدمة للنص، فإنه لم يعد له الحق في رفع البطاقة الحمراء في وجه من يستخدم التاريخ والسياسة في نقد نصه. ناس عكا الذين غابت ملامحهم وبدوا كتلاً بشرية مُداساً عليها ولا فائدة منها ولا مواقف لها، هم ناس عكا الذين بنوها مع ظاهر العمر حاكمها السابق قبل الجزار، والذي حكم الجليل وأجزاء من لبنان. في عهده تألقت عكا وازدهرت جيشاً واقتصاداً وثقافة. كيف لهؤلاء الناس أن يختفوا فجأة كلهم؟ لم يظهر في الرواية واحد منهم حتى ليكون متواطئاً مع الجزار ومقرباً منه. كل الشخوص المهمين في الرواية غرباء. راية النقد الأدبي ستقول أن هذا الحكم ثقافوي سياسوي وليست له علاقة بجماليات النص. هذا صحيح جزئياً، لكن ما دام النص قد غامر في دخول منطقة إعادة فك وتركيب التواريخ، فإنه فتح على ذاته بوابات النقد الثقافي.

حرية هشام الخشن في «جرافيت» تأخذ منحنى آخر، إذ في خضم انشغاله وانهماكه في تصوير معركة الحداثة والرجعية في مصر منذ عشرينات القرن الماضي، ينتقي أحداثاً ووقائع ويسلط عليها الضوء فتصير كأنها الراسمة تاريخ مصر. طبعاً، هو لم يقل ذلك وفي نهاية المطاف لن يستطيع كاتب ما أن يضمّن تاريخ مصر في قرن كامل في كتاب صغير بشمولية وموضوعية. لكنه مهجوس في أن يقول لقارئه أن مصر وضعت نفسها على مسارين منذ سنة 1928، وهي السنة التي ابتعثت فيها مجموعة من الطالبات إلى فرنسا وبريطانيا لإكمال الدراسة الجامعية، والتي تأسست فيها أيضا جماعة «الإخوان المسلمين» في مدينة الإسماعيلية. منذ ذلك التاريخ والشد والجذب بين هذين المسارين. الخشن منحاز لمسار الحداثة والتحديث بلا مواربة، لذلك تصير الرواية في مجملها إدانة فكرية وسياسية لـ «الإخوان». هذه الإدانة يتم إخراجها درامياً فنقرأ أن «الإخوان المسلمين» قادوا تفجيرات ضد اليهود المصريين في أواخر الثمانينات، وأنهم استلموا أسلحة من الإنكليز، فضلاً عن تشكيلهم النظام الخاص الذي استخدم العنف والاغتيالات. يعتمد الخشن على التوثيق ويشير إليه في الرواية، لكن السرد والبناء الدرامي يأخذان القارئ إلى موقف شبه أيديولوجي صارم. قصة الرواية والفتيات اللواتي سافرن وحدهنّ في مطلع الشباب إلى فرنسا، ثم عدن قائدات للحداثة ولحقوق النساء في مصر، رائعة ومبدعة. كما أن موضعة المسارين المتنافسين، الحداثة والرجعية، ضاعفت من الدراما كلها. لكن ما أضعف هذه الرواية هو الاختلالات والشقوق التي تسببت في «موت الناقد» (الأدبي) ووفرت فرصة للنقد الآخر أن ينال منها. في الحالتين، يصعب على الروائي أن يتذرع بدواعي الجماليات النصية والسردية، وطالما ورط نفسه في قراءة سياسية وتاريخية معينة، فإن عليه توقع النقد من تلك القراءة نفسها على أقل تقدير.

(عن “الحياة”؛ كاتب وأكاديمي عربي)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *