عباس يستشيط غضبًا ويكتب عن الدعارة

الجريدة التي يعمل فيها عباس تقع في “الواد” في حيفا السفلى. العلاقة والارتباط بين الجريدة والمكان أدّيا في انسياب مثاليّ تلفه الألفة والرضا من الطرفيْن إلى وحدة مصير عجيبة (“وما هي الجريدة؟.. ها.. حدث مجرد؟.. ظاهرة ثورية مستقلة؟..الجريدة ليست إلا الناس العاملين فيها، إذا تغيروا تغيرت وإذا تبدلوا تبدلت”، كان عباس يصرخ على سمير عادة والسكر قد تعتعه، في جدالاتهما اللانهائية حول الصحافة والناس). فعندما تواجه الجريدة أزمة مالية خانقة تحسّ بأنّ “الواد” يوشك على الانفجار. قد يكون التأويل مختلفا كل مرة (خطوط المجاري العطبة، إغلاق بسطات غير مرخصة، تأجيل البدء بمشروع تعبيد الشوارع المشققة، مجددًا)، وعندما تُفرج في الجريدة وتُدفع المعاشات المتأخرة ويتلقى صاحب البقالة المجاورة حساب القهوة الشهري وتتلقى أم منير حساب الفول والحمص، الشهريّ أيضًا، تدبّ الحياة في السّوق، فلا تعرف من أين يأتي الخلق ولا متى سيرحلون. حتى الحمص والفول اليوميان أو الفلافل الشقيق يصبحون من الحاجيات صعبة المنال. المعظم ينكرون هذه العلاقة الغريبة التي لا تحصل ولا حتى في الأفلام، ولكن ليس باستطاعة أحد إنكار التزامن الغريب والمثابر في آن الحاصل بين الجريدة و”الواد”.

“أهلا سمير، لماذا تأخرت؟”

“تأخرت؟.. ما بك، لم يستغرقني أكثر من ساعة.”

“هل تكلمت أميرة معك؟”، قال وهو يجرّ سمير من يده خارج غرفة التحرير الرئيسة الكبيرة، حيث تجمهر الكثير من موظفي الجريدة أمام التلفاز لمتابعة مباراة حامية من مباريات المونديال الداهم، إلى غرفة جانبية تخصّ عباس، محرر ملحق الجريدة وأحد أعضاء هيئة التحرير.

“هل تكلمت أميرة معك؟”، قال واقفا بقرب الباب.

“نعم. بعد حديثي معك بدقائق.”

“وماذا قالت؟”

أطرق سمير برهة ثم قام يتجوّل في الغرفة الصغيرة فتفحّص الكتب الملقاة بإهمال يليق بعباس ثم اتكأ على حافة الشباك المُطلّ على “الواد”.

“أنطق يا أخي، ماذا دهاك؟.. سمير!”

خُيّل لسمير أنّ عباس كان يصرخ. والأرجح أنه كان يصرخ بالفعل. إستدار ونظر إليه تلك النظرة التي لا تقول شيئا وتقول كلّ شيء.

“عباس، تعالَ نتكلم بصراحة.”

“طبعًا، ومتى كان غير ذلك؟”

“متى تحادثتَ أنت وأميرة عنكما آخر مرة؟”

“البارحة.”

“لا أعني شجاراتكما اليومية. أعني حديثًا هادئًا وعميقًا.”

“ماذا تقصد؟”

“وماذا فهمت؟”

“ماذا جرى لك؟”، استشاط عباس غضبًا هذه المرة، “هل أتيتَ إلى هنا لمقارعتي؟”

“إسمع عباس، أعتقد أنّ عليك الحديث مع أميرة سريعًا، ولا أعني مجرّد الحديث. أصغِ إليها جيدًا، حاول أن تسمعها إلى النهاية.. أعتقد أنّ هذا أفضل ما يمكنك فعله الآن.”

“ماذا قالت لك؟.. ها؟.. ماذا قالت لك لتقول لي ما قلته الآن؟”

“من الأفضل أن تتحدث أنت إليها بنفسك.”

“أنا لا أفهم شيئًا.”

“المهم الآن..”

قطع صوت الهاتف كلام سمير.

“آلو، نعم إنه هنا.. لك..”

“لي؟”، استغرب سمير.. “آلو”، انتقل للإنجليزية، “نعم أنا هو.. أهلا، جيد كيف أنت؟.. اليوم؟.. طبعًا.. لنقل في الثامنة، في “المقهى الصغير”، حسنًا إلى اللقاء.”

كان عباس في تلك الأثناء قد اقتعد كرسيّه بجانب النافذة وأطرق مليًا. لم ينتبه إلى أنّ سمير أنهى مكالمته وسمير لم يودّ إزعاجه. مرّت لحظات من الصمت قطعها دخول رئيس التحرير إلى الغرفة.

“عباس، هل تأتي إليّ حالما تنتهي؟”

“حسنا”، تمتم عباس.

يلم يكن هذا الوضع مريحًا للإثنين. ربما هذا ما حدا بعباس إلى الاستئذان قليلاً. تناول سمير بعض الصّور والأوراق المليئة بالكلمات المطبوعة، إتضح أنها تقرير يُعدّه عباس عن بيوت الدعارة في حيفا. “مثير جدًا”، ابتسم سمير لنفسه.

“لا يمرّ يوم في الآونة الأخيرة إلا ونسمع عن مداهمة لبيت دعارة في حيفا، وعلى الأغلب في الهَدار. حيفا، مدينة العمال، لم تعد تلجأ للنوم في التاسعة ولم تعد تهتم كثيرًا بساعة الاستيقاظ صباحًا ككلّ مدن العمال في العالم. ربما أحسّت هذه المدينة بتقدّمها في السنّ أو ربما بعزوف أبنائها الشباب عنها فشمّرت عن ساعديها -والأصحّ عن ساقيْها. الهَدار الكسول الخالي من أيّ روح بعد السابعة أو الثامنة مساءً تحوّل إلى قبلة الحجيج في المدينة. ففيه تتركّز غالبية بيوت الدعارة في المدينة وفيه تجد أية فتاة تبغيها نفسك وتطلبها. التقرير الذي بين أيديكم سيلاحق هذه الظاهرة ابتداءً من بعض الزبائن الدائمين الذين وافقوا على الحديث، مرورًا بالبيوت نفسها وبفتاة عاملة في إحداها، وانتهاءً بأمر الطرد من البلاد الصادر بحقّ كلّ فتاة يُقبض عليها.

“وبين هذا وذاك اكتشفنا في بحثنا هذا شبكة رشاوى ضخمة يشترك فيها رجال شرطة كبار وصغار مع قواد ورجال عصابات يديرون بيوت الدعارة في المدينة. الكثير من التفاصيل المثيرة والأمور الخطيرة ستنكشف لكم بعد قراءة هذا التقرير، ولن تعود حيفا لتكون في نظركم كما كانت قبل ذلك أبدًا!.. شدّوا الأحزمة”.

على ورقة أخرى قرأ سمير ما رجّح أنه مُسوّدة العناوين للتقرير الذي ما زال في أوله: “حُكلّي… بحُكّلّك”، وتحت هذا عناوين فرعية: “الكشف عن شبكة رشاوى ضخمة نُسجت خيوطها بين رجال شرطة كبار وصغار في المدينة وبين قواد ورجال عصابات يديرون الأغلبية الساحقة من بيوت الدعارة في حيفا”، وبعض الكلمات المبعثرة والمشطبة. كانت الصور المرفقة بالأوراق لفتيات جميلات ذوات أجساد “تجارية” مُثلى. قلّب الصور على عجل عندما أحسّ بقدوم عباس ثم أعادها إلى مكانها وأخذ كتابًا وفتحه.

“أعذرني عزيزي.”

“لا عليك، على كلّ حال أعتقد أنّ عليّ الذهاب الآن. تعرف أين تجدني.”

“ألن تظلّ لأعدّ القهوة؟”

“أنت مشغول جدًا اليوم ولا أودّ تعطيلك. بالمناسبة، سمحتُ لنفسي بقراءة بداية التقرير”، وأشار برأسه إلى الاوراق الموضوعة على الطاولة.

“لا عليك. هذه مسوّدة، التقرير سينشر غدًا بصيغته النهائية.”

“عظيم. هناك ما يقرؤه المرء غدًا… ثم قل لي، من أين لك هذا الضلوع في عالم الدعارة والعصابات؟”

“أطلب تجد”، قال مبتسمًا.

“وأيّ طلب!”

(إلى صفحة الرواية)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *