وصلتُم إلى…

منذ أن غزت أجهزة الهواتف النقالة/ الخليوية/ الخلوية/ المحمولة/ الموبايل حياتنا المغزيّة أصلاً، تطورت في الخفاء ثقافة كاملة ممتدة الجذور والفروع، حول البلاغات التي تستقبل المتصلين لجهاز ما، في حالة عدم الرد على المتصل أو في حالة كان الجهاز مطفئًا. البلاغات التي تبدأ على الأغلب بكلمتي: “وصلتم الى..”. مع الوقت تجذرت هذه الظاهرة كما قلنا، وصار لكل بلاغ إرشادي يتركه صاحب الجهاز، معنى ومضمون، وبالأساس، دالة كبيرة على شخصية صاحب الجهاز.

فيما يلي محاولة أولية لرسم معالم البلاغات الأكثر شيوعًا، وتحليلاً نفسوايًا/ نفسيًا لأصحاب هذه البلاغات. نعدكم أعزائي القراء بمحاولة مماثلة أخرى، ولكن للبلاغات المتروكة على الأجهزة النقالة، البلاغات التي يتركها المتصلون الذين لا يحظون بإجابة من صاحب الجهاز. هذه البلاغات تبدأ عادةً بالكلمتين: “شو؟.. وينك؟..”. ملاحظة هامة: الزاوية مكتوبة بلغة المذكر ولكنها تتوجه لجميع الأجناس البشرية، من رجال وإناث ولوطيين وسحاقيات والأعضاء في “الحركة العربية للتغيير”…

المُسالم

هذا الانسان لا يحب المشاكل. أعطوه في الشركة جهازًا وفيه بلاغ مسجل بالعبرية. فلماذا وجعة الرأس؟ البلاغ يبقى دون أن يمسسه بشر، الى أبد الآبدين.. “هل نعرف نحن العرب المتخلفين أكثر من صانعي هذه الأجهزة؟ لماذا علينا أن نُبعبص دائمًا في كل شيء نمسكه؟ هل لكي نحس بالأهمية؟ ثم أن المتصل على الجهاز يعرف لمن الرقم ولمن الجهاز. فإذا سمع المتصل بلاغ الشركة العبري (المسجل بصوت أنثوي حيادي) فإنه سيترك خبرًا لصاحب الجهاز، وليس للأنثى الحيادية التي تردد البلاغ في أكثر من 4 ملايين جهاز نقال في دولة اليهود… يعني إشي بفلق! ما الداعي الى تغيير البلاغ؟ وفي النهاية نتعجب لماذا يحرضون علينا…

القومجي

“كيف يمكن أن يرضى عربي فلسطيني فخور بأن يكون في جهازه بلاغ باللغة العبرية. هل تأسرلنا الى هذا الحد؟ أين النخوة والعروبة؟”.. مثل هذه الأنواع من الشخصيات مسالمة هي أيضًا الى حد ما. فهم لا يلغون البلاغ العبري الذي يأتي مع الجهاز ويسجلون بدلاً منه بلاغًا بصوتهم. بل يتصلون بموظفة الشركة، التي أخالها تضع على أذنيها سماعة الهاتف الصغيرة طيلة الليل والنهار. فهي تنام مع السماعات وتأكل مع السماعات وتمارس…. الرياضة مع السماعات. لقد اعتقدتم أنني سأقول “تمارس الجنس”. اعترفوا، اعترفوا يا أشقياء… المهم أنهم يتصلون بالموظفة مع السماعات (آه، واللواتي يلبسن قمصانًا بيضاء أيضًا. لا أعرف لماذا. ولكن في كل الاعلانات في الجرائد يضعون صورًا لموظفات وموظفي الشركة العرب بقمصان بيضاء.)، يتصلون بالموظفة مع السماعات ويطلبون منها أن تغير البلاغ في “الزنزانة الصوتية” (سنأتي على ذكر هذا المصطلح لاحقًا) الى اللغة الانجليزية. أجل الانجليزية. كأن كل المتصلين بهم من أميركا أو إنجلترا. هكذا، تكون واقفًا في الحارة، الى جانب جورة المجاري الفايضة، وجارك الحيوان يضرب امرأته أمام أولادهما، وأبو العبد يتنخّع على الشرفة المقابلة واضعًا إبهامه على أحد المنخارين، فَيَسدّه، ثم يطلق العنان للهواء من المنخار الثاني، فتنطلق كباتيل الخنانة الى الهواء الطلق، في فلسطين التاريخية. هكذا تكون واقفًا مع كل الديكور الموصوف، وتطلب رقم الجهاز النقال لجارتك أو جارك أو أي أحد، فيقشعر بدنك لكبير المفارقة التي تفحّج في وجهك: بلاغ بالانجليزية. وتكاد تطير من العجب لهذا التناقض. تطير من العجب أقول لك. إذا حصل وردّ عليكم بلاغ بالانجليزية فاطلبوا منه أن يجلب لكم ويسكي ومارلبورو لايت من الديوتي فري…

المُبادر المتوجّس

هذا النوع من الناس لا يرضى بالواقع المفروض من فوق، بل يحاول أن يتمرد عليه. ولكن بعقلانية. دون أن يزوّطها. فبدلاً من أن يلغي البلاغ العبري الجاهز يفضل أن يلجأ الى امكانية “التوقيع الصوتي”. أي أن يبقي على البلاغ العبري، ولكن مع إضافة الاسم الشخصي بصوته. فيصير البلاغ هجينًا إبن هجين. مثال: إذا أراد النائب أيوب القرا مثلاً أن يكون مبادرًا متوجسًا يمكنه بالطبع أن يسب على العرب ثم أن يقول إنه يفتخر بانتمائه العربي في مكان آخر. ولكن هناك حل أسهل. أن يترك اسمه الشخصي بصوته الشخصي في نهاية البلاغ العبري غير الشخصي. فيصير البلاغ بأكمله كالتالي: “الله يلعن أبو العرب من يوم ما خلقو.. خونة مخربين… أيوب القرا”. أو باختصار: “وصلتم الى الزنزانة الصوتية الخاصة بـ (كل هذا كان بالعبرية والآن بالعربية).. أيوب كاغّا”.

المبادر المعتدل

المبادر المعتدل يلغي البلاغ العبري الجاهز ولا يسجل شيئًا بدلاً منه. هكذا، فراغ، هدوء. تضرب الرقم بعون الضارب ثم يرن الجهاز في أذنك. وبعد أربع أو خمس رنات يتوقف الرنين ثم تسمع وصلةً طويلةً من الصمت. تقول: “آلو”. ثم تصمت. تنتظر. تنظر الى الذي الى جانبك. تقول “آلو” مرة أخرى بعد أن تنظر الى حضنك. (هل لاحظتم أن كل الذين يتحدثون في النقال ينظرون الى أسفل. فإذا كانوا واقفين ينظرون الى الأرض ويكتشفون على الأغلب أن الحذاء الذي اشتروه بالأمس كان قد لبّص قبل قليل في كومة براز. وإذا كانوا جالسين فانهم ينظرون الى أحضانهم أو فروجهم. وهذه هي الفرصة الأنسب على فكرة للتأكد من أن زر البنطال لم ينقطع حتى الآن، بعد الوجبة الأخيرة). ثم تقول آلو للمرة الأخيرة، وتهز جهازك القريب الى أذنك بحركة استهجانية للذي يجلس قبالتك دلالةً على عدم الفهم. فيقول الذي معك: “خلّليلوا هودعاه”. فتعيد الجهاز الى أذنك وتصغي مرةً أخرى. هل صفّر هذا الشيء، أم يجب الانتظار قليلاً ريثما يُصفّر هذا الشيء؟ هل إذا بدأتُ بالحديث الآن سأكتشف بعد قليل أنني كنت أتحدث الى لا شيء؟ تدخل في حيرة وجودية، وتصير على قلق كأن الريح تحتك. تنظر الى الذي قبالتك. نظراته حرّاقة. ينتظر منك أن “تْخلّي هودعاه”. تخضع للضغوط الجسدية المعتدلة. تبدأ بالترديد: “هييْ. كيفك؟.. إحنا في “فتوش”. اتفقنا على العشرة. وينك؟.. أيش؟ أيش أقولوا؟.. بقلك أيوب جيب معك الديسك اللي حكيتوا عنّوا..”. هنا بالضبط تسمع الصفارة من الجهاز الآخر. يعني عليك أن تبدأ بالحديث الآن. كل ما قلته كان كثرثرات العرب في يوم الأرض. لا من سامع ولا من مسموع. تنضغط. إذ تخجل من أن يظن الذي قبالتك أنك غبي الى هذه الدرجة. تقفل جهازك وتنظر الى الشارع. تتجنب الحديث عن الموضوع بتاتًا. أنت تعرف أنك لست غبيًا. ولكن الذي قبالتك لا يعرف أن من كنت تحاول أن تترك بلاغًا على نقاله، هو مبادر معتدل…

المبادر الجريء (أو: مَغايْفِر)

عددهم غير معروف. قد تكون نسبتهم مرتفعة. فأنا لا أستطيع أن أحكم من خلال تجربتي الخاصة، لأن قائمة معارفي الهاتفية ليست عينة تمثيلية للوسط العربي في الدولة. هي ماكسيموم عينة تمثيلية للوسط السّكرجي. ولكنهم هناك… هؤلاء الشجعان البواسل، طلائعيو الهواتف النقالة، أحباب الله، جند الوطن، قاهرو الأعداء، مرابطو الحدود، حماة الديار، أعضاء لجنة المتابعة… لأ، عنجد. إنهم الذين يتركون في “زنزاناتهم الصوتية” بلاغًا مسجلاً بأصواتهم. كُله بأصواتهم. من الأف الى الياء. كُله، وكُل كُلِه. يا للجرأة والاقدام. فهذا الأمر، على عكس ما يعتقد الكثيرون، بحاجة الى كمٍ كبيرٍ من الشجاعة. أن تترك صوتك هكذا في زنزانةٍ صوتيةٍ. ولكي تقوم بذلك عليك اتخاذ الكثير من القرارات المصيرية، أهمها:

يجب اختيار اللهجة، عامية أم فصيحة. إذا كنت من العاملين في الجمعيات الاهلية، فإنك على الأرجح ستترك بلاغًا بالعربية الفصيحة. إذا كنت شخصًا هامًا في نظر نفسك فانك ستترك بلاغًا بالعربية الفصيحة، يتلوه بلاغ بالعبرية الفصيحة. فأنت مهم ويتصل بك يهود (مهمون، على الأغلب). إذا كنت “كول” فإنك ستترك بلاغًا بالعربية العامية، لأنك شعبي وغير متكبر (ولا تعرف العربية الفصيحة).

يجب التدقيق في سرعة الالقاء. فهل ستترك بلاغًا بوتيرة الحديث العادي، أم أنك ستولي اهتمامًا للنبرة وتقطيع الكلمات والأحرف؟ هذه أمور مصيرية، تدلل على شخصيتك المشوهة. ففقط شخص مشوه يفكر في هذه الأمور، وَهُم كُثُرُ…

ما هي الكلمات التي ستقولها في البلاغ؟ هل سيكون البلاغ عاديًا جدًا، مثل: “مرحبا. وصلتوا عند أيوب القرا. الرجاء ترك بلاغكم”؟ أو أنه سيكون مركبًا بعض الشيء، مثل: “مرحبًا، الرجاء ترك بلاغكم بعد الصافرة. لن أقول إسمي فأنتم تعرفونه بالطبع. ليس لأنني مشهور جدًا، بل لأنكم أنتم الذين اتصلتم. على كل حال، وصلتم الى أيوب القرا”. أو أن البلاغ سيكون ظريفًا وفيه بعض الدعابة، مثل: “وصلتم الى المكان المناسب في الوقت غير المناسب… خسارة. مش رح تقدروا تحكوا مع أيوب…”. أو ربما أن البلاغ سيكون دالاً على عمق مدارككم وعِظَمِ اطلاعكم وثقافتكم، مثل: “أهلا. أيوب القرا. الى اللقاء”. فأنتم بمثل هذا البلاغ توحون بالجدية والتصميم على استغلال كل دقيقة لما فيه منفعة هذا الوطن.

وهناك أيضًا ممن يستعينون بالمؤثرات المختلفة، أهمها المؤثرات الموسيقية. فقبل البلاغ هناك مقطوعة موسيقية، تختلف في مدتها الزمنية ومحتواها، من أيوب الى آخر. البعض يُسمعك وأنت تنتظر الصافرة ابنة الزانية مقطوعةً لزياد الرحباني. هادا إيش ياخي، شيوعي. البعض يُسمعك مقطوعة من خطاب لجمال عبد الناصر. هادا إيش ياخي، تجمعي. البعض يُسمعك مقطوعة لأم كلثوم. هادا أيش ياخي، حشّاش. البعض يُسمعك صوت طائرة تدخل منفجرة في ناطحة سحاب. هادا أيش ياخي، من حزب المُلا محمد حسن كنعان الطمراوي. وهكذا دواليك. وهناك من يُسمعك إشي بالأجنبي. يعني الزلمي ساحبي معو. والى أن تنتهي الأغنية تكون روحك قد طلعت. والبلاغ قد طلع أيضًا: ينعن أبوك على أبو أبوك يا معفن يا إبن المعفن!!

الزنزانة الصوتية

حتى المساحة الرقمية المتاحة للبلاغات الصوتية في أجهزتنا النقالة أسموها أبناء عمنا بزنزانة. يعني فات البلاغ، ربك ما طلّعوا. اعترف أحسن لك!! بماذا أعترف يا حضرة البلاغ؟ اعترف أحسن لك!! بماذا أعترف؟؟ إعترف أقول لك!!.. حسنًا، حسنًا.. كل مكالماتي لا داعي لها.. أنا تعودت أن أتصل كل الوقت بمن يتصلون بي.. هذه عادة قبيحة، أعرف، ولكنني تعودت. هل تقبل أن تتصل بصديقك، فلا يرد عليك، ثم لا يعود لك باتصال؟ ستشعر بالاهانة بالتأكيد، أليس كذلك؟… ولكن لماذا علي أن أشعر بالاهانة؟ ماذا سيقول لي إذا أعاد الاتصال؟… ها ها.. سيقول لك: إنك اتصلتَ به وكان في الحمام… هذا ما سيقوله لي فقط؟.. بزيادة. ماذا تريد أن يقول لك؟ لقد اتصل بك قبل 5 دقائق ليقول لك إنه ذاهب الى الحمام…

(نشرت هذه المادة في ضمن زاوية “ع الهدا” في مجلة “الناس”، 2002)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *