مهرجان “التجمع” في حيفا: الكثير من الضحك

علاء حليحل

محمد ميعاري، عضو الكنيست السابق عن “الحركة التقدمية”، ومن قيادة “التجمع الوطني الديمقراطي” اليوم، سألني بالعبرية: “لماذا لم تقف وتغني بلادي.. بلادي؟”. لا أعرف لماذا اعتقد أنني من أحفاد إسحق، ولكن الرجل الذي إلى جانبه قال له: “هذا صحفي”. من موقعي قلت له مبتسمًا: “غنيت في قلبي يا رفيق”. ثم ضحك القوم بعد أن علموا بأنني عربي، وران الصمت ثانيةً في قاعة “الميدان” في حيفا، التي امتلأت كراسيها ومعابرها ليلة أمس بمؤيدي وأعضاء “التجمع”.

الكوادر الشابة التي طغى حضورها -وبدا واضحًا كبر التمثيل الشبابي في المهرجان-  كانت تتنقل بين الناس توزع المناشير والملصقات. العديدون توجهوا إليّ ورووا لي مآخذهم على المقابلات التي أديرها في الراديو مع السياسييين العرب. هذه المآخذ تمحورت حول الاحاديث السلبية عن “التجمع” في هذه اللقاءات. الجو السائد بين كوادر “التجمع” (وغيره من الاحزاب أيضًا) هو: من ليس معنا فهو ضدنا. إذا لم تعلن ولاءك التام لـ “التجمع” فإنك تبقى في دائرة التساؤل والاستفهام. بعضهم أراد أن يعرف ما رأيي فيما كتبته نشرة “الجبهة” والبعض أراد أن يتأكد من أنني لا أعمل في “الاتحاد”. الحساسية بين “الجبهة” و”التجمع”، في الحزبين، تضرب أرقامًا قياسية في كل مرة من جديد. في مثل هذه المواقف عليك أن تكون حذرًا دائمًا ومتيقظًا لكل حركة أو كلمة. فالاتهامات حاضرة والنصال جاهزة لتتكسّر فوق النصالِ!

الشاعر حنا أبو حنا روى قصةً ظريفةً في المهرجان الانتخابي الذي نظمه “التجمع” أمس. قال: “في قريتنا زمان كان الناس يشدّوا، يعني يذهبون للحصيدة في الأراضي لأسبوعين أو أكثر ويبيتون خارج القرية. في واحد كان عرسو بعد بيومين، فما شافوه إلا وحامل عدتو ورايح. سألوه: لوين؟.. عرسك بعد يومين. قال لهم: زوجوها لأخوي لحد ما أرجع”. وبعد أن فرغ الجمهور من الضحك، قال أبو حنا: “العروس لنا ونحن أصحاب الحق ونحن أصحاب العرس ولا يمثلنا غير ممثّلينا”. هذه القصة جاءت كتجسيد لعدم التصويت للأحزاب الصهيونية. بعد الضحك اقتبس أبو حنا المتنبي في واحدة من أشهر قصائده (من يهن يسهل الهوان عليه) وشرح معاني بعض أبياتها في الدعوة إلى الكرامة والعزّة، ثم أثنى على الضاد العربية وجلس.

حظ المرشحة الرابعة أفنان إغبارية لم يكن متأتيًا حتى النهاية. ففي بداية حديثها وصل بشارة، وهذا سيء جدًا لمن هو واقف على المنصة. بعد ذلك حاولت أن تقتبس واحدًا من شعارات “التجمع” الانتخابية (لنحمل همك ونحمي حلمك) ولكنها نسيت الشعار. بشارة من مكانه على الطاولة قال بصوت عالٍ: “إذا كان الأمر كذلك فيبدو أن الشعار غير ناجح”. الجمهور ضحك كثيرًا. الكثير من الضحك كان في القاعة ليلة أمس. تجسيد حي للاحساس بالنصر والخروج من المأزق الكبير. حتى يهوديت هرئيل، اليهودية التقدمية عضوة “التجمع” أضحكت الناس بعبريتها الغربية.

المفاجأة الكبرى في ليلة أمس كانت لأشرف قرطام، عضو اللجنة المركزية ومركز شبيبة “التجمع”. قرطام ابتدأ بجملة عبرت عن مأزقه في تلك اللحظة: “أصعب شيء أن تتكلم قبل عزمي أو بعده. إذا تكلمت قبله فالكل سينظر في الساعة. إذا تكلمت بعده فإنك تتكلم لوحدك”. الجمهور انفجر ضاحكًا. الجمهور انفجر في الضحك أكثر من مرة ومرتين وثلاث في خطاب قرطام. يبدو أن عودة “التجمع” إلى المسار السياسي بعد تجاوز أزمة الشطب، قد أعادت معها روحًا جديدة وطاقات لم تكن مكشوفة حتى النهاية قبل ذلك. طاقات الجمهور مثلا، في الضحك والتصفيق والغناء مع الموهوبة فاطمة أبو النيل؛ وطاقات المتحدثين، وأبرزهم في تلك الأمسية كانت طاقات قرطام. لو كان قرطام فنانًا، لكانت مجلة “ترفزيون” الفنية كتبت بالبنط العريض: مولد نجم!

بشارة كان مُمغنِطًا أمام جمهوره كعادته، وأعطى الناس، كعادته أيضًا، كل الأجوبة على كل الأسئلة المطروحة. لو قُدر لبشارة أن يولد إلى مجتمع سليم لا يعاني من ألف اضطهاد ومن ألف قضية، لكان اليوم بالتأكيد أكبر كوميديان في الشرق الأوسط الحديث. لبشارة قدرة غير عادية على إضحاك الناس حتى القهقهة، وفي اللحظة التالية تمامًا أن يصدمهم بجملة عميقة ومؤثرة. الجمهور ليلة أمس راوح طيلة الوقت بين الفرح والسرور وبين الشعور بالمسؤولية أمام التحديات الجديدة التي زرعها بشارة في نفوسهم بذكاء. فماذا سينتفع “التجمع” من مؤيدين وكوادر سعيدة جدًا وتضحك ملء صدورها للنصر “الكبير على المستشار القضائي”، قد تنسى في يوم الانتخابات أن تتجند لانجاح الحزب الضاحك؟..

من موقعي في القاعة، كنت غريبًا عن مشهد الحماس والتثوير الذي ساد فيها، وحتى عندما دخل عزمي بشارة، ودوّى النشيد التجمعي، ووقف القوم يصفقون ويغنون له، لم أقف. كنت مُنهمكًا في الكتابة. في لحظة ما استدرتُ إلى الخلف وإذ بمحمد ميعاري لم يقف أيضًا، كما وقف عند نشيد “بلادي بلادي”. بشارة عند ميعاري ليس مهمًا مثل “بلادي بلادي”…

(نُشرت هذه المادة في ملحق “المشهد الإسرائيلي” في كانون الأول 2003)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *