غريغوري يختفي و”الناقدة الفنية” تغضب

 الباب يُطرق بشدّة وإصرار. انقلب سمير على جانبه الآخر وحاول أن ينام ثانية. الباب يُطرق بشدّة. فتح عينيْه وجفل للحظة. كانت “الناقدة الفنية” نائمة بجانبه عارية من دون غطاء. رفع الغطاء عنه قليلا. هو أيضًا عارٍ. أعاد رأسه إلى الوسادة وحاول أن يتذكّر الليلة الماضية. عباس، دم، ماريحوانا… لم يمهله الطرق على الباب الهدوء الكافي ليسترجع الأحداث فانقلب على جانبه الآخر وغطى رأسه بالوسادة.

 “ألن تفتح؟”، سألت “الناقدة الفنية” بصوت أجشّ.

 لم يردّ. الطرق لم تخفت شدته ولم تخفّ وتيرته. قام متثاقلا وارتدى بنطاله الملطخ ببقع دم متناثرة واتّجه نحو الباب. رنّ الهاتف. توقّف في منتصف الطريق بين الباب والهاتف. عظيم، بشّر نفسه وأسرع نحو الباب. كانت ليليان، جارته الروسية من الشقة المقابلة. أبقى الباب مفتوحًا وأشار إليها بيده علامة الدخول وهو يتجه نحو الهاتف.

 “آلو.. نعم.. أهلا.. شكرًا.. لا بالطبع، عذرك معك.. لكلّ واحد ظروفه… بالطبع، بالطبع… كان جيدًا، تعرف… كالعادة… شكرًا.. لا شكّ.. لا أدري، ما زال الوقت مبكرًا.. كم الساعة؟.. يا إلهي، لقد ولى النهار.”

 كانت الجارة قد جلست قبالته. كانت تنظر إلى بنطاله الملطخ بالدم تارة وتارة إلى صدره المعشوشب بالشعر. شعر كهذا لم ترَ في روسيا.

 “اتفقنا… أكيد، إلى اللقاء.. باي باي.”

 وضع السماعة وفرك وجهه بيديه ببطء وكسل وودّ لو بقي هكذا ساعة.

 “أهلا، كيف الحال؟”، قال بالعبرية، “أعذريني فأنا استيقظتُ للتوّ.”

 “غريغوري لم يعد إلى البيت منذ أسبوع”، قالت ليليان بحزن.

 “أسبوع؟.. هذا سيء.”

 إقترب وجلس قبالتها. انتبه إلى أن سحّاب بنطاله مفتوح فسارع إلى إغلاقه، ولمداراة حرجه سارع إلى السؤال:

 “هل غضب من شيء؟.. ربما تشاجر مع أولغا.”

 “لست أدري.”

 “هل اتصلتم بالشرطة؟”

 “لا.”

 “لِمَ لا؟”، قال بلهجة غاضبة بعض الشيء.

 ارتبكت ليليان بعض الشيء وتمتمت ثم قالت:

 “لست أدري. أولغا لم تكلّف نفسها عناء ذلك وقالت إنّ غيابه أفضل من وجوده، لها وللأولاد، وإنني إذا أردت البحث عنه وإعادته فالأفضل أن أترك البيت أنا أيضًا لأنها ليست مجبرة على إسكان أخت النغل في بيتها أيضًا.”

 “هذا فظيع”، قال سمير وأطرق للحظات.

 “هل تودين شرب القهوة؟”

 “لا، شكرًا.”

 “أعذريني ولكني أودّ إعداد القهوة لي، سأعود سريعًا”، وهمّ بالقيام.

 “لا بأس، سأعود لاحقًا”، وقامت بسرعة.

 “لا، لا، لم أقصد. يمكنك البقاء، إنما أنا استيقظت الآن.”

 كانت ليليان في تلك الأثناء قد توجهت إلى الباب وخرجت. تبعها سمير ببطء. كان يسمع وقع أقدامها وهي تنزل الدرج راكضة حتى خفت الصوت ثم اختفى. أغلق الباب واتجه نحو المطبخ. وضع الماء في غلايته الزرقاء، بحث عن الكبريتة لثوانٍ ثم أشعل النار ووضع الغلاية فوقها وجلس إلى الطاولة المكدّسة بالأوراق والفناجين المُتسخة.

 “ما الامر؟”

 انتفض مذعورًا ثم عاود الجلوس رأسًا عندما رأى “الناقدة الفنية” تقف في باب المطبخ وقد ارتدت قميصه.

 “هل أفزعتك؟”… اقتربت منه وجلست إلى الطاولة قبالته.

 “نعم.”

 “متأسفة.”

 “لا بأس، أنا معتاد على هذا.”

 صمتٌ. كانت “الناقدة الفنية” تفكر في سؤاله عن الصبية ولكنها خشيت من جوابٍ جافّ. كان هو يفكر بأن يسألها عن حيثيات وجودها في فراشه عارية ولكنه خشي من غضبها لأنه لا يتذكر ذلك. الماء يغلي. قام ووضع الغلاية على الرخام المهترئ وأنزل علبتيْ السّكر والقهوة وانغمس في صنع القهوة. رنّ الهاتف.

 “ليس الآن”، قال متذمرًا.

 “لا عليك، إذهب أنت، أنا سأكمل صنعها.”

 “شكرًا.”

 هرول إلى الصالة.

 “آلو… أهلا عباس، أين أنت؟.. لماذا في الجريدة، ما الساعة؟… نعم، تذكرتُ أنّ الساعة الثالثة… ماذا؟.. لا أبدًا، ماذا حصل؟.. لا أدري… إهدأ أنت ولا تتسرع بتخيلاتك هذه.. ربما نامت عند صديقة لها… ما المانع يا أخي، ألم تنم أنت عندي مئات المرات؟ ماذا؟ آه، الآن تقول لي، ولِمَ تشاجرتما؟… ماذا؟ لا أصدق! أنا لا أفهمكما أبدًا.. إعمل ريجيم يا أخي إذا كانت بدايات سمنتك تضايقها… حسنا، إسمع، سآتي إليك إلى الجريدة، ساعة على الأكثر. حسنًا.. باي.”

 كان سمير معتادًا على هذه المواقف. بين الحين والآخر يتحوّل إلى “جاهة صلح” للزوج الأكثر إشكالية على الإطلاق، لكنه لم يكن معتادًا على زيارة عباس في الجريدة، وعباس لم يطلب منه ذلك إلا نادرًا، وهذه المرة الأولى التي يطلب فيها عباس ذلك يوم الخميس، يوم إغلاق الملحق. فعباس لا يملك الوقت “ليحكّ رأسه”.

 “مشاكل؟”، كانت “الناقدة الفنية” تحمل صينية القهوة.

“آه”، تنهّد جامعًا رأسه بيديه وانكبّ على الكنبة.

 “ما به عباس؟”

 “لا شيء، مجرد سوء تفاهم مع أميرة، لم يدرِ أين نامت الليلة.”

 “فهمت.”

 صبّت القهوة في الفنجانين الكبيرين. ارتشف كل منهما القهوة بهدوء وكلٌ ساهِم في الأرض. بعد دقيقتين أو ثلاث:

 “ما رأيك فيما حصل؟”

 “لا أدري. مشاكلهما كثرت في الآونة الأخيرة.”

 “لم أقصد ذلك.. إنما ما حصل بيني وبينك”- وأطرقتْ خجلاً.

 “أيه.. في الحقيقة…”

 “أيخجلك الحديث عن ذلك؟”

 “بعض الشيء.”

 “لم تبدُ لي خجولا أبدًا ليلة أمس”، وأطرقتْ خجلاً ثانية.

 “فهمتُ”، قال كالهمس.

 “لم أعتقد أنّ الأمور قد تصل بيننا إلى هذا الحد.”

 إنفجر سمير ضاحكًا كالأبله. بالرغم من المفاجأة التي سيطرت على “الناقدة الفنية” والذهول الذي اعترى وجهها، استمرّ في الضحك واشتدّ حتى تحوّل إلى قهقهة وقحة.

 “لا.. لا.. لا تفهميني خطأ..”، أخرج الكلمات بصعوبة بالغة وهو يلوّح بيديه نافيًا.

 “أفهم ماذا؟”

 كانت عيناه قد دمعتا واسترخى في الكنبة حتى التشنج. لم يسمع السّؤال وربما سمعه. ولكنه لم يستطع الإجابة على أية حال. قامت هي ودارت حول الكنبة ثم توجّهت إلى غرفة النوم وعادت وقد ارتدت ملابسها وربطت شعرها بسرعة، وهو ما زال مستغرقا في الضحك.

 “لقد.. لقد.. لقد تذكرتُ”… كان يخرج الكلمات بصعوبة بالغة.

 لم تحتمل هي المزيد فاتجهت نحو الباب وفتحته. انتظرت قليلا وهي تنظر إليه تلك النظرة التي تعني: أتسكت أم أذهب؟!

 ذهبتْ. طرقتِ الباب بشدة. استمرّ هو في الضحك حتى أنهك تمامًا وآلمته خاصرتاه وفكّاه فصبّ لنفسه المزيد من القهوة وقام يبحث عن نظارته وسجائره. في طريقه من الغرفة إلى الصالة شغّل سخان الماء ومرّر كفه على ذقنه أمام المرآة، توجّه إلى الباب، فتحه ونزل الدرج إلى مدخل البناية، أخذ الجريدة وعاد إلى شقته واقتعد الكرسي في الشرفة وفتح الجريدة ليقرأها. بعد دقائق رنّ الهاتف.

 “آلو.. أهلا.. أين أنتِ بحقّ السّماء، أين اختفيت؟ ماذا؟.. لقد اتصل بي قبل قليل غاضبًا وخائفًا.. سأذهب إليه بعد أن أستحمّ.. هو في الجريدة الآن.. أرجوك أميرة بحقّ السماء، ماذا لو زاد وزنه قليلا؟.. إذًا قولي له بصراحة إنك مللتِ الحياة معه، أنتما ستتزوّجان قريبًا كما تعلمين، فلا داعي.. أعلم ذلك.. أعلم.. طيب وما دخلي أنا؟.. ماذا؟.. لا أعلم كيف تورّطنا بهذا، لا تبكي الآن.. لا لا لا تأتي الآن، عليّ أن أذهب إليه.. أفضل ما تفعلينه الآن الاتصال به… لحظة، إسمعيني.. هذه صبيانية لا داعيَ لها… اتصلي به وطمئنيه وسأذهب إليه بعد أن أستـ.. لا إصنعي لي معروفا، لا يمكنك أن تأتي.. آه يا الهي كيف استنتجتِ أنني أكرهك الآن؟.. بالطبع وإلا لما كنتُ معكِ.. أعلم أن علاقتنا مُتعِبة ولكن ما الذي يمكننا عمله؟.. وعباس؟.. لا مستحيل! ليست المسألة مسألة تضحية، لستُ دون كيشوت وليست هناك حاجة لأن أكون دون… وليس هذا جبنًا.. أنتِ عصبية الآن، إهدئي وسنتكلم هذا المساء.. يمكنك المجيء هذا المساء.. نعم، عباس يعمل حتى منتصف الليل، اليوم دوريته في المناوبة ويوم إغلاق الملاحق.. ماذا؟.. أحمر، لا، أحمر.. تكفي قنينتان.. باي.. وأنا أيضًا.”

 اتجه إلى الحمام ووضع صابون الحلاقة على وجهه، وأخذ يمرّر السكين عليه بحذر. طُرق الباب.

 “أهلا ليليان، أين ذهبت؟”

 “أولغا تصرّ على طردي إذا بلّغت الشرطة.”

 “لا عليك، تعالي أدخلي لنفكّر قليلا.”

 “لا، ليس لديّ الوقت الكافي، عليّ الذهاب إلى الكلية الآن.”

 “حسنا، تعالي عندما تعودين وسنتدبّر الأمر.”

 “شكرًا، باي.”

 عاد إلى الحمام وأخذ يكمل حلاقة ذقنه. أين اختفى غريغوري بحقّ السماء، فكّر وهو يدقّق في إزالة الشعر من تحت أنفه. هل ملّ وقرر الهروب أو الرجوع إلى روسيا؟ لماذا أحضروهم إلى هنا وقذفوا بهم إلى هذه الدنيا الزانية؟.. أين المنشفة؟..

(إلى صفحة الرواية)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *