بخصوص الكرامة..

 علاء حليحل

ألقى حسن نصر الله، الأمين العام لحركة “حزب الله” اللبنانية، بعد منتصف ليلة الثلاثاء/ الأربعاء من هذا الأسبوع، كلمة تلفزيونية مُسجلة، وجهّها في اعتقادي، وبالأساس، إلى الشعب اللبناني وإلى مُؤيدي المقاومة. فهو أسهب في شرح موقف “حزب الله” وعملية الأسر للجندييْن الإسرائيلييْن، وما ينتظر اللبنانيين في “الأيام الحاسمة المُقبلة”، كما أسماها، أضافةً إلى توجهّهِ المباشر لإسرائيل وقباطنتها، حول التصعيد المُرتقب في الحرب الدائرة.

في اعتقادي، أنّ أهمّ ما جاء في خطاب نصرالله هو الفقرة التالية: “أجزم بأننا لا يمكن أن نقبل بأيِّ شرط مُذلٍّ لبلدنا ولشعبنا، ولن نقبل بأية صيغة على حساب السيادة الوطنية والحرية والإستقلال، خصوصًا بعد كل هذه التضحيات. شعارنا الأساسي هو الكرامة؛ البيوت والبنى التحتية يُعاد بناؤها، أما الكرامة فلن نسمح بأن يُذلها أحد. لقد أعطت رايس العدو أسبوعًا أو عشرة أيام، هي حاسمة ومصيرية.. ونحن بحاجة إلى المزيد من الصمود والثبات والصبر والتماسك”.

نصر الله دعا في خطابه إلى التماسك والثبات، ولكنه أعاد إلى الأذهان والقلوب العربية مصطلح “الكرامة”، الذي كان من وراء تأميم قناة السويس وحرب 1967 وحرب 1973، والمقاومة الفلسطينية في اجتياح بيروت، وهي تقف أيضًا من وراء الانتفاضتيْن الفلسطينيتيْن، ومن وراء رفض الإملاءات الإسرائيلية لحلّ النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي. ومع ذلك، فإنّ مصطلح “الكرامة” ومدلولاته يُنظر إليه على أنه شعار فارغ ومفهوم لا يليق بالقرن الواحد والعشرين، والكثيرون يستخفون به على أنه بقايا غير محمودة وغير مرغوبة من تراثنا العربي الذي عاد علينا بالكثير من المصائب. أي أنّ الكرامة لا تليق بالحداثة وما بعد الحداثة.

إلا أنّ الكرامة في السياق السياسي والحربي للمنطقة تعني في نظري “حق تقرير المصير”، لا غيره. هذا ما ينقصنا، أن يملك لبنان الحق الكامل في البتّ في أموره الداخلية وسيادته، وسوريا أيضًا وأيران وفلسطين، وطبعًا مصر والأردن ودول الخليج، مع أنّ هذه الدول الأخيرة المُستسلمة كلية للإملاءات الأمريكية، تخلّت (بواسطة أنظمتها) عن المطالبة بهذا الحق، وبالتالي فقدت أية كرامة أولية أو أدنى مستوى من الأخلاقيات الإنسانية في علاقتها مع إسرائيل وأمريكا.

الكرامة هي التي خلقت منظومة حقوق الإنسان الحديثة والعصرية، وهي التي نمّت هذه الحقوق وقوّتها؛ فلو اختفى عنصر الكرامة من أخلاقيات البشرية لانهارت كل النظم الحقوقية والدفاعية التي تعرفها البشرية اليوم، في عصورنا الحديثة وما بعد الحديثة، والتي أريقت من أجلها دماء تملأ بحارًا ووديانًا. الكرامة هي التي صنعت الإنسان الحديث العصري الفخور بقيمه وإنجازاته، في الغرب بالأساس. الكرامة هي التي دفعت بالولايات المتحدة الأمريكية إلى دخول الحرب العالمية الثانية بعد قصف وتدمير مرفأ “بل هاربر”، وهي لم تكن لتتدخل في الصراع الأوروبي لولا ذلك.

الكرامة ليست “تخلفًا عربيًا” كما يحاول أعداؤنا أن يُروّجوا، وكما يحاول العرب المُنهزمون أن يفعلوا، وكما يحاول المستشرقون والمعلقون الإسرائيليون أن يسخروا منها ومنا. ما الذي يجبرنا أصلاً على العناد والتصميم ورفض الإملاءات والمهانة التي في الاستسلام؟.. هي الكرامة، وهي نفسها التي حملت الجماهير الفرنسية للثورة على النظام الملكي في الثورة الشهيرة، وهي الكرامة نفسها التي دفعت بالفيتناميين إلى مقاومة الأمريكيين الغزاة حتى دحرهم. الكرامة ليست شتيمة “شرقية” رجعية، وهي ليست اختراعًا عربيًا بالمرة، إنها اختراع بشري كوني. أحد الأسباب من وراء الحرب التي تجري الآن في لبنان هو الكرامة الإسرائيلية المهدورة على يد مقاتلي “حزب الله”، يومًا بعد يوم.

عذرًا إذا كنتُ أتحدث مثل شعارات الأنظمة العربية حتى اليوم، التي تتغنى بالكرامة ولا تعرف ما هي أصلاً. وعذرًا أيضًا إذا كنتُ رومانسيًا بعض الشيء في السعي وراء الكرامة المفقودة، وسيقول البعض لا شك: هل سنعود إلى لغة الشعارات والهزائم؟.. العودة إلى “خطاب الكرامة” هي الأمل الوحيد في تثبيت دعم المقاومة، وفي التأسيس لثورات ستغير العالم العربي، حين يدرك المواطن العربي المدعوس في جميع الأقطار الشقيقة أنّ كرامته غالية، وأنّ لا شيء يسوى من دونها. عندها فقط ستنقلب حياتنا؛ ستصير كرامتنا هامة ومصيرية، تمامًا مثل جميع الشعوب الغربية والشرقية التي حققت استقلالها وعزة نفسها وبَنَتْ منظوماتها المتنورة والمتقدمة، التي تهدف أولاً وأساسًا إلى الحفاظ على كرامة الإنسان.

الكرامة هي الدافع الأول للرفض وللمساءلة ولعدم قبول الغبن والتسليم به. الكرامة هي الشعور الإنساني الأقوى وكل مسٍّ بهذه الكرامة يؤدي إلى الثورة والتغيير مهما طال الزمن. الكرامة هي التي حرّرت العبيد السود في أمريكا وهي التي جعلت الجزائر تقدم مليون شهيد. الكرامة ليست نخوة شرقية غير مفهومة أو غير منطقية وعقلانية، وهي ليست انفجارًا غير واعٍ للمشاعر؛ الكرامة هي إرادة كل شعب وهي تُترجم بالعلم والتنمية والبناء، بناء الحضارة وبناء الإنسان. هذا ما ينقصنا اليوم، ولا شيء غير ذلك.

الكرامة. لنعُد إلى الكرامة، وعندها سنعرف كيف نبدأ ثانيةً!

(نشرت هذه المادة في موقع ’’عرب48’’ بتاريخ 30 تموز 2006)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *