العليا الاسرائيلية: ثالثُ القبلتين!

علاء حليحل

في الثانية عشرة والنصف من ظهيرة أمس الأول الثلاثاء، استلم الشيخ جمعة القصاصي من النقب وبعضٌ من مرافقيه، القبلة، واستووْا في صف واحد ليؤدوا صلاة الظهر. القبلة في ذلك الموضع كانت الحائط الحجري المرتفع الذي يجلس خلفه قضاة محكمة العدل العليا الأحدا عشر، في القاعة “ج”، وهم ينظرون في قضية شطب باروخ مرزل، اليميني الكاهاني المتطرف. الشيخ القصاصي ورفاقه لم يتوقعوا أن يهرع إليهم حرس المحكمة، تلحقهم الكاميرات والفلاشات، بصراخ: “ممنوع الصلاة هنا”. بعد جدال وأخذٍ وردٍ دخل القوم إلى غرفة جانبية وأدّوا صلاتهم بعيدًا عن الأنظار. الدّين الوحيد المسموح به في قاعة العدل العليا في إسرائيل هو الدّين الذي يكتبه قضاة المحكمة في كتبهم وقراراتهم وتسويغاتهم. بالنسبة للجميع، قرارهم مقدس ورأيهم سنةٌ وفرضٌ. العليا هي هيكل الفضّ بين المؤسسة والفرد. هي للفرد ملاذ، وهي للمؤسسة نِدٌ كبيرٌ.

لا يمكن المبالغة أبدًا وبأي شكل في المعنى الرمزي للحادثة الصغيرة المذكورة أعلاه. في الثانية من بعد الظهر لنفس اليوم دخل عزمي بشارة إلى القاعة “ج” ليجلس في الصف الأول مع زوجته ومقربيه، ويستمع إلى التسويغات التي طُرحت لشطبه وشطب قائمته، “التجمع الوطني الديمقراطي”، من المشاركة في الانتخابات الاسرائيلية. اللجنة المركزية للانتخابات صوتت مع شطب بشارة و”التجمع” وشطب الطيبي أيضًا. بالنسبة للعرب وممثليهم، تشكل محكمة العدل العليا اليوم الملاذ الأخير الذي يمكن الالتجاء إليه في مواجهة المدّ القومجي الصهيوني المتطرف الذي يكتسح المجتمع الاسرائيلي، يومًا بعد يوم. صباح اليوم كانت العليا كما توقعها وأرادها العرب: رفضت قرار شطب الطيبي بالاجماع، وقرار شطب بشارة و”التجمع” بأغلبية 7 ضد 4. بالنسبة للفلسطينيين داخل إسرائيل، تحولت محكمة العدل العليا إلى ثالث القبلتين. لها نتضرع ومنها نطلب العدل، وإليها نحتكم. العليا لم تخيب آمال الملتمسين العرب إليها هذه المرة، ولكن بوادر التحوّل والخطر كامنة في ميزان القوى في اتخاذ القرار بشأن بشارة و”التجمع”: 7 مع، 4 ضد. هؤلاء الأربعة قد يتكاثرون في الالتماس القادم في الانتخابات المقبلة. بشارة طالب اليوم في المؤتمر الصحفي الذي عقده في القدس باستقالة المستشار القضائي للحكومة. لا أعتقد أن بشارة يوهم نفسه بأن أحدًا سيستمع إلى طلبه، أو يعيره الاهتمام. المستشار سيبقى والعليا ستبقى، وبينهما سيظل محامو “عدالة” يحملون أكوام ملفاتهم وعباءاتهم السوداء ويركضون وراء العدل والقانون، على أمل أن يكونوا مع صناديق ملفاتهم آخر من سيتعب!

ساسون: الهدف تدمير دولة إسرائيل!

المحامية طاليه ساسون، ممثلة المستشار القضائي للحكومة، طلبت أن تقرأ في البداية تصريحًا قصيرًا كتبه المستشار القضائي للحكومة، إلياكيم روبنشطاين. أهم ما ورد فيه: “إن منع قائمة أو مرشحين من حق الترشح هو خطوة متطرفة وتنبع من منطلق اللا مفر. إن محاولة منع “التجمع” من خوض الانتخابات لا تهدف لتضييق الخناق على الجمهور العربي، الذي يطالب بالمساواة…”.

ساسون: “مطلب “دولة كل مواطنيها” يناقض بشكل مطلق الدولة اليهودية. “التجمع” يطالب بالغاء كل القوانين التي تعطي أفضلية لليهود، منها قانون العودة. “التجمع” يدعي أنه ليس هناك شعبٌ يهوديٌ وأن حق تقرير المصير ينحصر في اليهود الذين يعيشون داخل الدولة وليس خارجها. إن العامود الفقري والهدف الاستراتيجي المركزي عند “التجمع” هو ما ذُكر أعلاه. هذا يظهر في كل تصريحات وكتابات بشارة”.

في خلال ادعاءاتها في المحكمة وأمام القضاة، تركزت ساسون في النقاط التالية:

“التجمع” وبشارة يستغلان مطلب المساواة كغطاء فقط للمطلب الحقيقي، وهو “دولة كل مواطنيها” الذي هدفه تقويض أركان الدولة اليهودية.

يحق التحدث في هذا الموضوع، لكن من غير المسموح التنظّم بحسب هذا الطرح لنفي دولة اليهود.

كلما انضم أناس إلى “التجمع” وأفكاره، كلما ازدادات قوته الانتخابية وعدد مقاعده في الكنيست، وهذا ينشئ خطرًا على الدولة.

لُب دولة إسرائيل التي قامت على أنقاض الهلوكوست، هو تأسيس بيت قومي للشعب اليهودي، هنا وفي الشتات.

الأدلة تشير إلى أن هدف “التجمع” هو التقدم خطوة فخطوة للأمام نحو “دولة كل مواطنيها”. الهدف القادم هو تأسيس دولة ثنائية القومية. في لقاء صحفي مع بشارة في 1998 (ملحق “هآرتس”) قال إن هناك امكانيتين: إما دولة واحدة وإما دولتين. الأدلة السرية تقول إن الهدف هو دولة واحدة.

في الأقوال التي ألقاها بشارة في سوريا (خطاب القرداحة في الذكرى السنوية الأولى لوفاة حافظ الأسد) يتضح من فحواها أن بشارة يؤيد المقاومة اللبنانية، أي “حزب الله”. الدعم لم يكن في الحديث فقط وإنما في السفر إلى هناك والجلوس إلى جانب حسن نصر الله ونائب رئيس الجمهورية الأيرانية وأحمد جبريل.

في مهرجان أم الفحم (مهرجان خطابي نظمه “التجمع” حول الانسحاب الاسرائيلي من لبنان) ورد في تقرير صحفي (خبر موسع في صحيفة “معريف” كتبه سعيد بدران) أن بشارة دعم كفاح حزب الله المسلح وكل ادعاء آخر هو تمويهي وإصطناعي.

فيما يخص الادعاء بأن هناك محاكمة جنائية ضد بشارة على النقطتين الأخيرتين وهذا يعطيه حصانة وحق بعدم النظر في الأمرين، هذا الادعاء هو باطل.

جبارين: المواطن أهم من القومية 

في ادعاءات الدفاع التي حضرها تنظيم “عدالة” وطرحها المحامي حسن جبارين، مدير مؤسسة “عدالة”، لم ينفِ جبارين أن الفكرة المركزية والطرح الأساس عند “التجمع” هما “دولة كل مواطنيها”. عودة إلى برنامج الحزب السياسي توضح هذه النقطة حتى النهاية:

“يناضل الحزب من أجل تحويل دولة اسرائيل الى دولة ديمقراطية ودولة لجميع مواطنيها اليهود والعرب وآخرين، بحيث تؤمن بها حقوق الإنسان والمواطن على أساس المساواة الكاملة بين جميع المواطنين. ودون أي تمييز على أساس الإنتماء القومي، أو الدين والجنس. بما في ذلك المساواة أمام القانون، وتكافؤ الفرص دون أي تمييز بما يتعلق بالعمل والميزانيات والخدمات، وصيانة حياة الإنسان وكرامته وممتلكاته… يعمل الحزب على تحقيق هدف المساواة ودولة جميع مواطنيها، من خلال إلغاء البنى القانونية العنصرية لدولة إسرائيل وكل المؤسسات الصهيونية مثل الوكالة اليهودية ودائرة أراضي اسرائيل والكيرن كييمت… الخ، وفصل الدين عن الدولة، وذلك عبر طرح مشروع المساواة الكاملة في الحقوق القومية والمدنية كبوصلة في العمل السياسي والجماهيري والقانوني من أجل الأهداف المذكورة… نطالب بمشروع المساواة القومية كنقيض للنظام الصهيوني العنصري القائم على خدمة اليهود ومنحهم امتيازات خاصة على حساب المواطنين الأصليين- العرب الفلسطينيين، مما يساهم في تعبئة وتجنيد هؤلاء المواطنين حول الأهداف المذكورة ورفض التمييز والتهميش في المكانة المدنية والقومية.”

جبارين يقول إنه على الرغم من هذه الموافقة، إلا أن البند 7(أ)1 لا يمكّن من منع “التجمع” وبشارة من خوض الانتخابات، بناءً على هذا الطرح. جبارين ادعى في النقاش أيضًا:

بشارة هو المفكر وواضع هذا الطرح و”التجمع” أغنت النقاش السياسي والجماهيري في الدولة.

المواطن هو المهم وهو الجوهر والمركز. يجب عدم المس بحقوقه وكيانه على خلفية القومية أو أية خلفية أخرى.

اعتراف بشارة باليهود هنا ككيان قومي مع حق تقرير المصير، لا ينبع فقط من كون ذلك حقيقة على أرض الواقع، وإنما ينبع من أخلاقيات عليا.

بشارة طلب من اللجنة المركزية للانتخابات ألا يتوقعوا منه أن يكون صهيونيًا. هو وباقي النواب العرب ليسوا صهاينة ولن يكونوا. لا تتوقعوا منه أن يعمل على ضمان أكثرية يهودية في إسرائيل.

إن إقامة دولة إسرائيل مكّن من خلق قومية جديدة يهودية، اعتمدت على اللغة العبرية. إقامة إسرائيل من هذه الناحية هو أهم حدث تاريخي عند اليهود.

بشارة يقول إنه يعي التناقضات بين طرح “دولة كل مواطنيها” وبين دولة اليهود، كما أنه يحاول التوصل إلى التسوية بين هذين الأمرين، ولم يقم بالمطالبة بإلغاء النشيد الوطني الاسرائيلي (هتكفاه) وقانون العودة لأنه ببساطة ليست هناك أغلبية كافية لذلك في الواقع المعطى.

فيما يخص خطاب أم الفحم فإن بشارة أرسل رسالة إلى محرر “معريف” في نفس اليوم محتجًا على التشويهات التي وردت في أقواله. محرر “معريف” لم ينكر ذلك وقال إن التحرير قام بتغيير صياغات معينة في الخبر الذي وصلها. الشرطة فتحت تحقيقًا في الموضوع وبعده أغلقت الملف. بعد سنة وبعد خطاب القرداحة تذكر من تذكر أن يعيد إلى الحياة هذا الملف المغلق.

فيما يخص الانتفاضة، بشارة قال إن لكل شعب الحق في مقاومة الاحتلال. بشارة لا يقرر للفلسطينيين أية طرق يتبعونها في مقاومتهم، وهو في برلمان الاحتلال. كما أنه عبر دائمًا عن معارضته للمسّ بالمواطنين في كل مكان. بالنسبة لـ “حزب الله” فإن بشارة لم يتطرق يومًا إلى أية عملية أو نشاط عينيين لـ “حزب الله” أو لأي نشاط مسلح. المقاومة هي ليست كفاحًا مسلحًا. كما أن تصريحات بشارة عن “حزب الله” هي تحليل للواقع ولا يختلف أحد معه فيما قاله. على العكس تمامًا. أقوال مثل: “حرب العصابات لا تنتصر على دولة، بل على سقف الصمود عند المجتمع”.

في خطاب القرداحة اعتمد الاعلام على اقتباسات مشوهة وناقصة. الحديث كان عن إعادة المجال للمقاومة أمام محاولة شارون فرض حرب شاملة إذا لم تُقبل الشروط الاسرائيلية كلها. ثم أن بشارة كان أول من دعا في الخطاب إلى مبادرة عربية سياسية شاملة، ومن بعد الخطاب جاءت المبادرة السعودية.

فيما يخص تحريض الشباب العربي داخل الدولة. بشارة قال لهم دائمًا: المقاومة التي نريدها منكم هي أن تذهبوا إلى الجامعات.

ميكي أيتان: الطيبي يشجع على قتل الاسرائيليين!

في النقاش الذي بدأ في حوالي السادسة والنصف مساءً من نفس اليوم ادعى عضو الكنيست ميخائيل أيتان (الليكود) أن عضو الكنيست أحمد الطيبي يدعم “الارهاب” بتصريحاته وبشكل فعلي أيضًا، عن طريق زيارة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مقره المحاصر، وخرق أمر منع دخول المناطق الفلسطينية وقت الاجتياح وزيارة مخيم جنين والاعلان فيه “أن المقاومة في المخيم هي بطولة وهي واجب وليست حقًا فقط”.

ميخائيل أيتان اقترح على القضاة أن يستعينوا بمعادلة “الضرب” التي ابتكرها لفحص النتيجة النهائية لتصرفات وأقوال الطيبي. أيتان قال إن الطرف الأول من المعادلة هو الدعم على أنواعه، والطرف الثاني هو الوتيرة. إذا ضربنا شقي المعادلة ببعضهما البعض سنحصل على دعم مؤكد!

المحامي دوف حنين، المرشح الرابع في قائمة “الجبهة- الطيبي”، والذي انضم إلى طاقم الدفاع مع “عدالة”، قال إن اقوال أيتان هي افكار تلوّث الخطاب الديمقراطي، وإن هذه الخطوة هي خطوة متطرفة جدًا. كما استعرض ما جاء في نقاشات اللجنة المركزية للانتخابات حيث قال إن أعضاء اللجنة بغالبيتهم لم يحضروا النقاشات، وهناك أساس قانوني لرفض قرارها.

المحامي مروان دلال من “عدالة” استعرض دور الطيبي وموقعه الجماهيري، وقال إنه يمثل الجماهير العربية وهو ليس متطرفًا أبدًا. كما أنه جلب اقتباسات من الاعلام تؤكد على نبذ الطيبي لفكرة تسليح الانتفاضة وقتل المواطنين الأبرياء من كل طرف. وانضم إلى هذه الادعاءات في النهاية الطيبي نفسه حيث طلب شطب أقوال أيتان عن دعمه لقتل الاسرائيليين، من البروتوكول واعتذار أيتان له عما قاله. أيتان في نهاية الجلسة لم يعتذر ولم يتم شطب أقواله من البروتوكول.

***

بعد النقاش في موضوع المتطرف الكاهاني مرزل امتلأت القاعة الخارجية أمام القاعة. من الخارج، من عند الشارع الرئيسي الذي يربط العليا مع مكتب رئيس الحكومة، مع باقي الوزارات وصولاً إلى مبنى الكنيست، وصلت أصوات المتظاهرين العرب واليهود اليساريين الذين احتجوا على هذه الممارسات ضد ممثلي الجمهور العربي. الوضع لم يكن مشحونًا فقط ضد الشطب، وإنما بين “الجبة” وبين “التجمع” إلى درجة وقوع مشادات هنا وهناك بين شقي البرتقالة!

داخل المبنى كان عضو الكنيست طلب الصانع يناقش عضوي الكنيست اليمينيين يسرائيل كاتس (الليكود) وميخائيل كلاينر (حيروت). كلاينر اتهم الصانع بأنه يدعم الارهاب والصانع اتهم كلاينر بأنه كاذب. في خضم الشجار بين الكاميرات والميكروفونات استطعت أن أسأل كاتس ما إذا كان “التنظيم اليهودي السري” تنظيمًا إرهابيًا، فقال: “إذا ثبت أنهم قاموا بما يُنسب إليهم فهم إرهابيون”. كان هذا تصريحًا غير مسبوق، ويبدو أن كاتس فهم ما فعله فبدأ بالتحفظ والتقليل من قيمة ما قال، أمام الصحفيين.

في الرابعة والثلث خرج بشارة وممثلو “التجمع” والطيبي ومحمد بركة (الجبهة) وعبد المالك دهامشة (الموحدة) وعصام مخول (الجبهة) من القاعة وكُلٌ هرع إلى ميكروفون. الميكروفونات هرعت إلى بشارة. بشارة قال ردًا على سؤال “المشهد الاسرائيلي” حول تقديره بشأن قبول المحكمة بالتمييز بين “المقاومة” وبين “الكفاح المسلح”، قال إنه يعتقد بأن المحكمة ستقبل بهذا التمييز بين المصطلحين. جبارين قال لنا إيضًا إنه يعتقد بأن المحكمة ستفعل ذلك، وهذا ما فعلته بالفعل، صباح اليوم الخميس.

في الشارع العربي بدأت صباح اليوم المعركة الانتخابية الحقيقية. “التجمع” خرج من هذه الأزمة قويًا ونشيطًا أكثر من أي حزب آخر. “الجبهة” أيضًا كسبت نقاطًا بحكم كون الطيبي المرشح الثالث في القائمة. “الجبهة” والطيبي يريان في خروج بشارة وجمال زحالقة (المرشح الثاني في “التجمع”) بعد انتهاء النقاش في قضيتهما والمغادرة دون الانتظار للنقاش بشأن الطيبي، عملاً غير مقبول. الكثيرون أيضًا وافقوا مساء الثلاثاء على أن هذا كان تصرفًا متهورًا وقد يضر ببشارة و”التجمع”.

في طريق خروجنا من القاعة، مساء الثلاثاء، قلت لبركة إن الوضع مُطمئِنٌ بعض الشيء. بركة وافقني وخمن أن العليا لن توافق على شطب أحد. هذا جيد في النهاية، وجلب الانتباه للعرب على الأقل، قلت له. وافقني بتحفظ، ثم قال “إن ما حدث في النهاية هو سيء بعض الشيء للعرب، بمجرد طرح هذه الامكانية. وهل تسألني إذا كان ما حدث سيفيدنا في الصناديق؟.. قد يكون ذلك صحيحًا. سننتظر ونرى”…

(نُشرت هذه المادة في ملحق “المشهد الإسرائيلي” في أيلول 2003)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *