خارج الشرعية، خارج السياق

 علاء حليحل

قراءات في الأبواب المتعلقة بالمُحذّرين العرب ولجنة المتابعة في تقرير “لجنة أور”

توطئة

فاخر عدد من الوزراء الاسرائيليين في الأيام القليلة الماضية، وبعد نشر تقرير لجنة التحقيق الرسمية “لفحص الصدامات بين قوات الأمن وبين مواطنين إسرائيليين في أكتوبر 2000″، بأن إسرائيل تندرج ضمن قائمة قليلة من الدول “المتنورة” في العالم، التي تملك آلية “لجان التحقيق الرسمية”، الآلية التي تثبت من غير تأتأة عِظَم الديمقراطية الاسرائيلية وتنوّرها. في هذه السلسلة من القراءات محاولة لفحص هذا الادعاء وسبر لأغوار وبواطن المنطق الذي سيّر عمل اللجنة في تعاملها مع العرب كأقلية من جهة، ومع قيادتها من جهة أخرى.

منذ البداية أنوّه إلى أن هذه القراءات لا تهدف بالضرورة للتهجم على اللجنة وعملها، وإنما تهدف بالأساس إلى تبيان دوافع عملها وتوجهاتها تجاه العرب، على الرغم من أن تطرقها المسهب إلى العرب، الضحية، كمتهمين في أحداث “أكتوبر 2000″، يضع اللجنة في موقف محرج للغاية من ناحية التخويل القضائي الذي حصلت عليه في كتاب التعيين. فكتاب التعيين يحدد عمل اللجنة بما يلي: ” على اللجنة أن تحقق في حيثيات تسلسل الأحداث وأن تتوصل إلى نتائج وأن تستخلص الاستنتاجات بشأن ما وقع فيها، وبشأن العوامل التي أدت إلى حدوثها أيضًا، ومن ضمن ذلك، تصرف المحرضين والمنظمين والمشاركين في الأحداث من كل الأوساط، وقوات الأمن؛” (1) من هنا بدأت الخطيئة الأصلية. فليس من مهمة لجان التحقيق الرسمية إلا التحقيق في عمل السلطة التنفيذية وأذرعها. المنتخبون والمتظاهرون ليسوا موضع تحقيق في عمل لجان التحقيق. وبالتالي، فإن رسائل التحذير التي أصدرتها اللجنة للنائبين د. عزمي بشارة وعبد المالك دهامشة وللشيخ رائد صلاح هي رسائل “غير شرعية”، قانونيًا وجماهيريًا. في هذا الموضوع قدم مركز “عدالة” إلتماسًا إلى المحكمة العليا لإلغاء هذه الرسائل، إلا أن الالتماس رُفض في قرار إمتد على صفحة ونصف الصفحة فقط! وقد جاء في طلب إلغاء الرسائل الذي سبق الالتماس والذي قدمه “عدالة” للّجنة ما يلي: “… من المفروض أن تقوم اللجنة كما هو معروف بفحص أعمال السلطة التنفيذية والتحقيق فيها بشأن عمل أو قصور من قبلها، تسبب بعدم الثقة بها من قبل الجمهور. التسويغ الأساسي لذلك هو الحفاظ على مبدأ فصل السلطات. في نهاية التوجه، طلب الموقع أدناه من رئيس الحكومة تغيير التفويض من أجل ملاءمته من الناحية القانونية الى مهمة لجنة التحقيق الرسمية.” (2)

وبما أن كتاب التفويض لم يتغيّر، تبدو الآن نتائج التقرير وتطرقه إلى المُحذرين العرب والمتظاهرين العرب أشبه ما يكون بتسجيلات لموت معلن سلفًا. في القراءة الأولى هنا تطرُق إلى ما ورد في التقرير عن النائب د. عزمي بشارة. في القراءات الآتية سيتم التطرق إلى ما ورد عن: الشيخ رائد صلاح، النائب عبد المالك دهامشة، لجنة المتابعة والاستعراض التاريخي الذي ثبتته اللجنة في محاولاتها لاستعراض “التصعيد والتطرف” في المجتمع العربي منذ يوم الأرض في 1976 وحتى أكتوبر 2000.

النائب عزمي بشارة و”التجمع”

لعل أكثر الأمور دلالة للبدء بها في هذا الاستعراض هو الجملة الفاتحة للمقطع الذي يختتم الفقرة 157، والملاحظة التي أوردتها اللجنة على هذه الجملة(3). الجملة تقول: “يّذكر، أن تصريحات قياديي “التجمع” في هذا الموضوع والتي قيلت في الإعتصام السياسي الذي نظمه “التجمع” في 23-6-2000، أقتبست في “فصل المقال”. 211″ وماذا تقول الملاحظة رقم 211 في أسفل الصفحة؟ تقول كالتالي: “من المثير للاهتمام القول إن أقوالا مشابهة أقتبست من منشور أصدرته “حماس” في المناطق (المحتلة) في أعقاب إنسحاب الجيش الاسرائيلي من لبنان. وورد في عنوان المنشور “اليوم لبنان- غدًا فلسطين”. وإستمرارًا كُتب أن “النصر يثبت أن لا طريق أخرى للنصر غير طريق الجهاد والتضحية والكفاح الدموي. هذا هو الدرس الذي يجب أن يتعلمه شعبنا الفلسطيني وعليه أن يسير في نفس الطريق.” (4)

القارئ لما كتب أعلاه يستنتج بالضرورة أن “التجمع” و”حماس” يعملان سوية وينسقان بينهما المناشير والبيانات. اللجنة، في هذا الموضع وفي مواضع أخرى، تتعامل مع بشارة و”التجمع” وكأن كل ما يُقال ويُفعل خارج عن أي سياق، خارج عن أية علاقة بالواقع، خارج عن أية حيثيات وظروف تتطور يوميًا وتحظى بردود من مختلف القوى السياسية، محليًا، قطريًا وعالميًا. فانسحاب الجيش الاسرائيلي من الجنوب اللبناني تطبيقًا للمهلة التي ضربها أيهود براك آنذاك، أتى على خلفية خلافات ونقاشات داخل المجتمع الاسرائيلي اليهودي. وكان من بين الآراء وقتها من تحدث عن الموت سدىً وعن أن إسرائيل لا تفهم إلا بالقوة وعن أنه لا يمكن الانتصار على حرب صعبة كالتي أدارها “حزب الله” ضد إسرائيل. تمامًا مثلما قال بشارة و”التجمع” وقياديون عرب آخرون. ما فعلته اللجنة في هذا السياق هو أمر بسيط للغاية، ولكنه غاية في الديماغوغية: بشارة يهلل ويكبر لـ “حزب الله” ويشمت بإسرائيل، لأنه عدو إسرائيل، وليس لأنه جزء شرعي وفعال ومؤثر في مجمل الخطابات السياسية المختلفة داخل إسرائيل وخارجها. وإذا لم تصدقوا فهاكم الدليل: “حماس” توافقه على ذلك!!

“التجمع” في الأحداث

من أجل إثبات العنصر التحريضي المُدّعى على بشارة و”التجمع” أورد التقرير أمثلة لأحداث سبقت “أكتوبر 2000″ ودور بشارة و”التجمع” فيها. هذه الأحداث هي(5): المبادرة لنشاطات إحتجاجية ضد هدم البيوت (أبرزها: اللد وأم السحالي)؛ مظاهرة “عيد الاستقلال” في شفاعمرو؛ مظاهرات وإعتصامات إحتجاجية في 30-9-2000؛ ونهاية، والأهم، تواجد قيادة “التجمع” وبشارة في كل مكان، أثناء أحداث أكتوبر، وبحسب إعتراف بشارة نفسه! اللجنة ترى في هذه الأمثلة برهانًا على دور بشارة و”التجمع” التحريضي والتصعيدي، أو كما كتبت: “يتضح من الأدلة أن “التجمع” رأى من واجبه “شحن” الجماهير عن طريق دعوة متكررة للنضال”(6) ولتدعيم هذا الادعاء أورد التقرير إقتباسًا لعوض عبد الفتاح، سكرتير “التجمع”: “شهد سكرتير “التجمع” في مداولات لجنة التحقيق بأن “التجمع” يرى من واجبه ومن حقه دعوة الجمهور إلى الكفاح؛ وهو يقول إن هذا تحريص أيجابي، مع أنه يعرف أن الأمور تخرج عن السيطرة في بعض الأحيان”.(7)

كما في أي حزب في العالم، وهنا، إبتداءً من “الليكود” وانتهاءً بحزب بنينا روزنبلوم، فإن من واجب “التجمع” شحن الجماهير طيلة الوقت. أعتقد أن اللجنة نسيت أننا نحيا في دولة ديمقراطية، تستند إلى التعددية الحزبية، التي تستند هي بدورها إلى الدعوة للتغيير، للكفاح، للمطالبة بالحقوق وبالصبوة إلى التأثير. إذا كانت نزعة “التجمع” لشحن الجماهير للمطالبة بحقوقها، مثل أي حزب آخر فاعل في الوسط العربي وغيره، مستهجنة في نظر اللجنة، فعلى إسرائيل أن تعيد حساباتها في نوع الديمقراطية التي تريدها. مرة أخرى يُقتبس “التجمع” وقياديوه خارج أي سياق وخارج أية ظروف وخارج أي منطق. وللتدعيم، كما أسلف، أوردت اللجنة في نهاية الفقرة ما قاله عبد الفتاح. وإذا كان عبد الفتاح إستخدم مصطلح “التحريض الأيجابي” معطيًا اللجنة بذلك طرف خيط للتلويح به أمام نوايا “التجمع”، فإنه كان من المفروض على اللجنة أن تكون حذرةً جدًا في التعرض لهذا المصطلح. فهي، اللجنة، في تقريرها، تستند بشكل مطلق في توصياتها إلى التحريض الأيجابي (فيما يخص الشرطة والوسط العربي). من يقرر إذا كان تحريض اللجنة الأيجابي أفضل وأكثر شرعية من تحريض عبد الفتاح الأيجابي؟ الذي يقرر بالطبع هو من يملك كتاب تعيين من الحكومة!

إحذروا الأسرى

برهان آخر تورده اللجنة لتدعيم توجهها نحو “خطورة” تصريحات بشارة و”التجمع” هو قضية الأسرى السياسيين (أو الأمنيين). ففي التقرير إقتباس لبشارة يقول عنهم إنهم “.. رمز للبطولة في موروث الكفاح الوطني”.(8) واللجنة تعقب على الفور: “في هذه الأقوال ما يضع الأسرى الأمنيين موضع القدوة للجيل الشاب”. مرة أخرى: خارج أي سياق، خارج أية موضوعية، خارج أي تعقيد للواقع الذي نحياه. الأسرى السياسيون هم جزء لا يتجزأ من القضية الفلسطينية ومن حياة الفلسطينيين في فلسطين، وهنا في الداخل. لا يمكن الحديث عن معركة للمساواة أو للحفاظ على الأراضي أو للدفاع عن البيت من دون الحديث عن نتائج مثل هذه المعارك. من المؤسف أن تنتهج اللجنة نهج المعلقين العسكريين في الصحف العبرية الذين يحبون دائمًا تذكيرنا بأن الأسرى السياسيين هم قتلة لا غير. أي أنهم ليسوا جزءًا من سيرورة تاريخية وسياسية ونضالية ضاربة الجذور وعميقة الحضور. كان على اللجنة أن تطور هذه النقطة إلى حيثياتها المطلوبة وأن ترى إلى السجناء السياسيين نتيجة مؤلمة للاحتلال وعدم المساواة والرغبة في كبت الفلسطينيين أينما كانوا. كان من المتوقع من اللجنة أن ترقى إلى هذا المستوى من التعامل ولكنها على ما يبدو إرتكنت إلى ما تقرؤه في الصحف العبرية السطحية.

إنتفاضة أم هبة؟

يبدو الآن أن الاستحواذ الذي سيطر على اللجنة، في تطرقها لما إذا كان بشارة وصف أحداث “أكتوبر 2000” على أنها إنتفاضة (شعبية) أم لا، ومن خلال القراءة في التقرير، يبدو محاكمة ميدانية الحُكم الوحيد الذي يمكن أن يصدر عنها هو الإدانة مع سابق الإصرار والترصد. ففي محاولة “لمحاصرة” بشارة وتثبيت التهمة عليه، تورد اللجنة عدة إقتباسات في أماكن وسياقات عدة تثبت أن بشارة وصف أحداث “أكتوبر 2000” بأنها “إنتفاضة شعبية”. المثال الأول الذي تورده هو من تاريخ 10-7-1998 بالذات، في تطرقه في إجتماع للجنة المتابعة، لأحداث “الروحة”.(9) ألا يمكن التعامل مع هذا الاقتباس، في حالة صحته، بما يليق من عدم الاستخفاف بعقولنا؟ أليست أحداث الروحة إنتفاضة شعبية حقيقةً؟ ألم يخرج المسنون والشباب للدفاع عن مصادرة أراضٍ من دون دعوة أحد ومن دون تحريض أحد؟ ألم يواجهوا قوات الأمن بأيديهم الفارغة وصدورهم المكشوفة؟ هذه إنتفاضة شعبية مئة بالمئة! ولكن لماذا تورد اللجنة هذا الاقتباس الذي سبق “أكتوبر 2000” بسنتين لكي تثبت أن بشارة إستخدم المصطلح في أكتوبر 2000؟ أعتقد أن هذا جاء  من باب الانشغال بالصغائر وبمحاولة تدعيم إدعاءات لم تكن لتبدو منطقية لولا مثل هذه الأحابيل.

لا للعنف؟

لجنة أور كتبت أن “مجرد كيل المديح من جانب بشارة على أحداث إحتجاجية وقعت فيها أعمال عنف، يُشتق من ذلك دعم هذا النوع من النشاطات”.(10) وأضافت إقتباسات لبشارة عن رؤيته الأيجابية لأحداث الروحة وأم السحالي وإرتباطها بيوم الأرض. هل الدعوة إلى مواجهة هدم بيت أو مصادرة أرض، عن طريق التواجد الجسماني في المنطقة، تعني بالضرورة الدعوة لـ “إطبح اليهود!”؟ في هذا تسطيح وتَبَنٍ للمنظور الضيق في حصر السبب والمسبب في خانة الخط الوحيد الأعمى الأصم الذي يربط بين نقطتين؛ بمعنى: رؤية بشارة الأيجابية هي دعوة للضرب والتكسير. نقطة. لا يهم ما الذي تشعر به العائلات التي هدمت بيوتها، لا يهم ما يحسّه أصحاب الأراضي التي سلبت، لا يعني أحدًا ما يختلج في صدور المتظاهرين الآتين من قرى ومدن منكوبة؛ ما يهم هو ما قاله بشارة أو غيره في ذاك الإجتماع أو تلك الصحيفة. لماذا؟ لأن اللجنة تبحث عن الموازنة. تبحث عن ملاذ من المأزق الذي وقعت فيه، في محاولتها الواهية على طول التقرير المساواة بين الضحية والجلاد.

لائحة إتهام

الأمثلة في الباب المخصص للنائب بشارة كثيرة ويمكن الاسهاب فيها، ولكنها تندرج تحت باب واحد رئيسي: لائحة إتهام مجحفة وخطيرة. فإذا كان بشارة يُحاكم اليوم بسبب تصريحاته السياسية ومواقفه المعلنة، فإن اللجنة أتت لتزود المحكمة والرأي العام الاسرائيلي بذخيرة من الرصاص الحي (مع أنها أوصت بمنع إستعماله). لا يمكن لأي قاضٍ في العالم أن يتجاهل تقرير لجنة رسمية في بتّه في موضوع يتعلق بهذا التقرير. القضاة ليسوا قديسين أو ماكنات جامدة تدخل إليها المعطيات لتصدر النتيجة. صحيح أنهم أكثر الناس أهلية للنظر في الأمور بموضوعية وحياد، ولكنهم خاضعون مثلنا كلنا لاعتبارات سياسية وأخرى تسيطر عليهم أحيانًا.

التقرير موضوع الحديث هو أكبر مثال. فمن جهة يورد التقرير لوائح إتهام قاسية ضد المحذرين العرب، ولكنها لا توصي ضدهم أية توصية لأنهم “منتخبو جمهور”. بمعنى: نحن جهزنا لكم الأرضية وما عليكم سوى الإجهاز على المطلوبين. من المهم جدًا ذكر هذه الأمور والتشديد عليها يوميًا لكي لا ننسى. فبعد قليل من الزمن ستندلع المعارك الانتخابية المحلية، وستنهمر الميزانيات بحكم توصيات اللجنة، وسنجد الكثيرين يرطنون بأيجابية التقرير وإنصافه للوسط العربي. في خضم كل ذلك يجب الا ننسى أن هذا التقرير دقّ واحدًا من المسامير الأخيرة في نعش شرعية القيادة العربية. إنتظروا وسترون كيف ستتعامل المحكمة العليا مع ما ورد في التقرير عندما تنظر ثانية في قرار لجنة الكنيست شطب “التجمع” في الانتخابات القادمة!

النائب عبد المالك دهامشة

في إستعراضها للبند المُخصص للمُحذّرين العرب في تقريرها الذي نشر مؤخرًا، ذكرت لجنة التحقيق الرسمية “لفحص الصدامات بين قوات الأمن وبين مواطنين إسرائيليين في أكتوبر 2000″، أن اللجنة في تعرضها للنائب عبد المالك دهامشة، فحصت ما يلي: “… السؤال الذي يواجه اللجنة هو ما إذا كان النائب دهامشة دعا الوسط العربي إلى المقاومة العنيفة وما إذا كانت هذه الأمور متعلقة بأحداث العنف التي وقعت في أكتوبر”. (ص 532- كل الإقتباسات الواردة في المقالة مأخوذة من التقرير الرسمي الصادر عن اللجنة). في تطرّقها لهذين الأمرين وجدت اللجنة النائب دهامشة “مذنبًا مع سابق الاصرار والترصد” (الصياغة شخصية). فيما يلي ما اعتمدته اللجنة في تقريرها، والتعقيب السريع عليه:

– هدم البيوت: حاولت اللجنة من خلال رصدها لتصريحات النائب دهامشة، فحص مدى تأثير هذه التصريحات حول هدم البيوت، على المواطنين العرب وتصرفاتهم في أكثر من موقع. المثال الأول الذي تورده اللجنة يأتي بعد أعمال العنف والمواجهات التي وقعت في اللد في حزيران 1999، على خلفية هدم بيت من دون ترخيص. وهناك أقتبس دهامشة بقوله “إن الجمهور العربي مستعد لكل نضال ولكل مسّ في إطار النضال على الأراضي العربية… حكومات إسرائيل لم تُنهِ حتى اليوم الحرب معنا. ما زالت حرب 1948 مستمرة. وهم يريدون طرد كل العرب من بيوتهم ومن أراضيهم..”. في قراءة أولية لهذا التصريح يمكن فهم ما أزعج أعضاء اللجنة فيه. ولكن في قراءة ثانية وثالثة، ألا يمكن القول إن حرب 1948 ما زالت مستمرة فعلا، في الضفة وغزة ظاهريًا، وفي الداخل على المستوى الثقافي والحياتي والوجودي؟ ثم أن إسرائيل تسعى بالفعل لإخراج أكبر عدد من العرب من داخل حدودها، وآخر هذه المحاولات (المكشوف منها) هو إقتراح إفرايم سنيه (حمامة “العمل”) إستبدال عرب المثلث بمستوطنات!

في هذا السياق وفي سياق كل الاقتباسات الآتية تتطرق اللجنة دائمًا إلى ما تسميه “الدعوة لمواجهة الشرطة وحرس الحدود”. اللجنة تتجاهل في كل المرات أن الشرطة وحرس الحدود تدخل قرانا ومدننا لتهدم بيوتنا، وتشغّل من أجل ذلك كل وسائل القوة والعنف. هل ترى اللجنة أن رد العرب يجب أن يكون بتقديم كؤوس المياه لهم؟ الدفاع عن البيت هو حق مقدس، وكما صاغه النائب محمد بركة في حينه: “الحق في المأوى أهم من طاعة القانون”. يريدون من العرب أن يختنقوا في بيوتهم المكتظة وأن يحتملوا هراوات العسكر القادمين لهدم هذه البيوت بإسم القانون المميز ضدهم أصلا. لا يوجد عربي في هذه البلاد يشكك فيما قاله دهامشة، من باب الدفاع عن النفس، وبالتالي فإن عامل التحريض في مثل هذه التصريحات لاغٍ بالضرورة. من واجب القيادة أن تعبر عن نبض واحتياجات الشارع- وهذا ما تفعله.

في سياق هدم البيوت تورد اللجنة أمثلة أخرى، مشابهة في جوهرها، مثل: نية هدم ثلاثة بيوت في سخنين في نهاية أيار 2000؛ نية هدم بيت في أم الفحم في مطلع أيلول 2000؛ وأيضًا، وبالتأكيد، تصريح دهامشة في إجتماع لجنة المتابعة بتاريخ 13 أيلول 2000، بـ “كسر أيدي وأرجل الشرطيين الذين يأتون لحراسة عملية هدم البيوت غير المرخصة في الوسط العربي”. (ص 533). في هذا المثال تورد اللجنة مسوغات واهية حول إلغاء عنصر الدفاع عن النفس من تصريح دهامشة واعتباره دعوة واضحة للعنف كخطوة مبادَر لها. هذا لاغٍ بالطبع لأن تصريح دهامشة، في صيغه المتعددة والكثيرة، يتطرق إلى حملات مخطط لها سلطويًا تستهدف التعامل مع إنعدام الأراضي والتمييز في الترخيص بواسطة كفة البلدوزر.

– مصادرة الأراضي: في هذا الصدد تعتبر اللجنة أن النائب دهامشة ربط أكثر من مرة بين أحداث جرت مؤخرًا وبين “يوم الأرض” في العام 1976. ومع أن اللجنة اعترفت (ص 536) بأن هذا الموضوع هو أكثر المواضيع أيلامًا للعرب في الداخل، إلا أنها انتقصت من شرعية القيادة العربية بالتصريح والتعامل مع هذا الموضوع بما يليق من الحدة والوضوح أمام هذا التهديد. وللتأكيد تورد اللجنة: “إذا لم تغيّر السلطات من سياستها فسيقع إنفجار غضب عند الجمهور الفلسطيني في الداخل”. أليس هذا صحيحًا؟ ألا يقوله كل عربي وكل يهودي عاقل منذ أكثر من عشر سنوات؟.. ما المشكلة هنا؟

– المسجد الأقصى: في هذا الباب تورد اللجنة الكثير من الأمثلة حول تصريحات للنائب دهامشة يحذر فيها من المسّ بالأقصى والاستعداد لتقديم الشهداء في حالة المس به، وهو مستعد لأن يكون أول شهيد من أجل ذلك. يبدو من خلال قراءة الأمثلة أن لا مشكلة في قبول صياغاتها- ظاهريًا على الأقل. المشكلة الأساس في هذا الباب هي نفي الشرعية الأساسية والمبدئية المحفوظة لدهامشة ولمسلمي الديار بالتمسك بأماكنهم المقدسة. لا يوجد يهودي متدين غير مستعد لتقديم روحه من أجل “هار هبايت”، كما الحال عند المسلمين المتدينين. من حق دهامشة أن يفصح عن أيمانه ومعتقداته وما يفكر به ويحس به تجاه ذلك. أنا شخصيًا غير مستعد للموت من أجل الأقصى، ولكن سيكون من الاجحاف والقمع منع أي شخص من فعل ذلك، أو قول ذلك. القيم المطلقة التي يتبناها كل شخص، في أساليب حياته ومعتقداته، هي أموره الخاصة، ما لم يضر بغيره. هنا يُطرح السؤال: هل شكلت تصريحات دهامشة في هذا السياق تحريضًا على الدفع للموت و”الاستشهاد”؟ من الصعب الأيجابة بنعم على هذا السؤال لأن من هو مستعد للاستشهاد في سبيل الأقصى، ليس بحاجة إلى النائب دهامشة أو غيره ليفعل ذلك!

المأخذ الأساسي الذي تأخذه اللجنة على النائب دهامشة، في نهاية تلخيصها للباب المتعلق به، هو: “.. لكن النائب دهامشة لم يُبدِ في تطرقاته المستوى الكافي من المسؤولية المتوقعة من رجل جمهور والوفاء المطلوب لسلطة القانون، خاصة وأنه رجل قضاء وبرلماني. أقواله تشجع على التوجه للعنف وهي تُقال بأسلوب حاد مثل “كسر الأيدي والأرجل” وعمليات “شهداء”. وبهذا ساهم في تأليب العواطف قبل الأحداث العنيفة في أكتوبر 2000 وخلالها”. (ص 541)

على الرغم من وعي اللجنة لموقع النائب دهامشة القيادي ولزوم تعامله مع القضايا الحارقة الخاصة بجماهيره، وريادتها على كل الأصعدة، فإنها تتهمه بعدم المسؤولية لفعله ذلك، وعدم إلتزامه كفاية بالقانون. المتوقع من نائب منتخب وقائد جماهيري أن يفعل ما فعله دهامشة حتى الآن. إذا كان في ذلك مشكلة بالنسبة للجنة وللدولة فليغيّروا ديمقراطيتهم.

الشيخ رائد صلاح والحركة الاسلامية- الجناح الشمالي

تمامًا مثلما أوردنا ما حدث مع النائب عزمي بشارة و”التجمع” (“فصل المقال”، 5 أيلول الجاري، ص 14)، فإن الباب المخصص للشيخ رائد صلاح، كمُحذّر من جانب اللجنة بحسب البند 15، يشمل الشيخ صلاح نفسه، بالاضافة إلى حركته السياسية. لهذا مغزيان: الأول، وهو إلصاق التهم بالنهج العام الذي تتبع له الشخصية المحذرة، وعدم الاكتفاء بتطرقات عينية؛ والمغزى الثاني، والأهم في نظري، هو إلصاق التهمة بقياديين آخرين في الحركة، ممن وردت إقتباسات على ألسنتهم في الاستعراض، قد يسدوا مسد الشيخ صلاح أو يتولوا مهامًا مستقبلية عنه، وبالتالي يمكن القول مستقبلا إن “العنوان كان على الحائط”.

في تطرقها للشيخ صلاح طرحت اللجنة الأسئلة التالية: “هل مرّر الشيخ رائد، في الفترة التي سبقت أكتوبر 2000 وخلالها، رسائل، أو كان مسؤولا عن تمرير رسائل، لتشجيع إستخدام العنف والتلويح به كطريقة لتحصيل مطالب الوسط العربي والمسلم في دولة إسرائيل، وما إذا كان شغّل  نهجًا من البروبغندا المتطرفة لتأليب العواطف حول موضوع الأقصى الحساس، ومن ضمن ذلك تحت إدعاء وقوع مجزرة مخططة هناك، وما إذا كان مرّر رسائل تنفي الشرعية عن دولة إسرائيل”. (ص 542)

– “دعم العنف”: اللجنة تبدأ بمثال عمّا حدث في المواجهات الصعبة مع الشرطة في “أحداث الروحة”، حيث “شوهد صلاح وهو يشجع المتظاهرين بنداءات تحميسية.” (ص 542). كما أنه كال المديح لما حدث هناك بعد إنتهاء الأحداث، ووصف الأحداث بأنها “تجربة مُقَوية”. (ص 542). كما أنه دعا، بحسب اللجنة، “الجمهور العربي في إسرائيل إلى مواجهة السلطات.” اللجنة لا تتطرق لطبيعة المواجهات وطابعها. بالنسبة للجماهير العربية في الداخل، وقاموس ومصطلحات العمل الجماهيري العام، فإن المواجهة تشمل تنظيم مظاهرات عادية ومرخصة وتشمل الاعتصام مقابل مبنى رئيس الحكومة في القدس وتشمل حملات تبرعات وتشمل الكثير. تعامل اللجنة مع كلمة “مواجهة” في هذا السياق على أنها دعوة للجهاد مثلا وفقط، هو تعامل مسطح وفيه الكثير من التغييب لإمكانيات العمل الجماهري الشرعي. كما أن اللجنة تتهم صلاح بدعوته العرب لـ “المبادرة” بدلا من الاكتفاء برد الفعل. ما قيل الآن عن “المواجهة” يسري أيضًا على “المبادرة”.

– “الأقصى في خطر”: اللجنة ترى في تنظيم مهرجانات “الأقصى في خطر” “النشاط الأبرز للشيخ صلاح وأنه كان حملة سياسية واسعة.” (ص 543) اللجنة تتعامل مع دعوة الشيخ صلاح لحماية الأقصى والذود عنه من مؤامرة إسرائيلية سلطوية تماديًا وتجاوزًا للعمل الشرعي. ولكن، أليس من حق قائد جماهيري ذي شعبية واسعة أن ينذر جماهيره ومؤيديه من إحتمالات لمخاطر، حتى لو لم تثبت صحتها مئة بالمئة؟ أليس ذلك واجبه الذي يُفرض عليه من مجرد كونه ممثلا لهم؟ أعضاء ومؤيدو وداعمو الحركة الاسلامية يرون في الأقصى رمزًا دينيًا رفيعًا. كل تعامل مع موضوع “الأقصى في خطر” خارج هذا السياق هو تعامل أمني ومحكوم بنظرة تسطيحية ومغرضة.

وإضافة، أوردت اللجنة أمثلة على لسان من سمتهم “نشطاء كبار” من الحركة الاسلامية أعربوا عن إخلاصهم لقضية الأقصى وورود إحتمال الشهادة وسفك الدماء دفاعًا عنه. مرة أخرى نعود إلى قضية الأيمان الخاص بكل إنسان وحقه في التعبير عنه. من واجب الدولة فهم هذه الدوافع وتذويتها، ومحاولة إستيعابها كما يليق بأية ديمقراطية متنورة، بدلا من تحويلها إلى سوط تجلد به من يؤمن بذلك.

– شرعية دولة إسرائيل: أوردت اللجنة في تقريرها: “على الرغم من حذرهم في موضوع شرعية دولة إسرائيل، وشعورهم بأنهم يقيمون علاقات متبادلة عملية مع مؤسساتها، إلا أن الشيخ صلاح ورجال حركته لم يمتنعوا دائمًا عن الإدلاء بتصريحات تحوي فيها ما يمكن أن يُفسر كإلغاء الشرعية (عن دولة إسرائيل).” (ص 545) وتضيف اللجنة: “في نظرهم، ليست إسرائيل إلا فلسطين المحتلة عام 1948”. (ص 547). وما المشكلة هنا؟ أليست إسرائيل تقوم على أنقاض أرض فلسطين التاريخية؟ هل كون إسرائيل القوية والمهيمنة يعطيها الحق بإلغاء التاريخ؟ بغض النظر عن الاعتراف بدولة إسرائيل أم لا (وهو سؤال غبي في جوهره: إذ كيف يمكن ألا تعترف بأمر واقع تعيش فيه؟؟)، فإن التاريخ الذي سبق قيام دولة إسرائيل هو تاريخنا ووجودنا. على الدولة أن تفهم ذلك، كما عليها أن تفهم أن لا تناقض بين من يقول إن إسرائيل أمر واقع وشرعي وإنها تقوم في نفس الوقت على أنقاض فلسطين التاريخية. على أنقاض من تقوم إذًا؟ على أنقاض أوغاندا؟

* * *

لم يكن الهدف من التطرق إلى ما ورد في تقرير “لجنة أور” الاستعراض الشامل والوافي لما قيل وكتب عن المُحذّرين العرب الثلاثة. الهدف الأساسي كان محاولة توضيح أمر أساسي مشترك للحالات الثلاث: أن لجنة التحقيق الرسمية (كما المؤسسة الاسرائيلية) لم تستطع الترفّع عن مظاهر أجواء التحريض على القيادة العربية السياسية الشرعية، ولم تقوَ على التخلي عن النظرة المسبقة إليهم بهذا المنظار. ما يبعث على إستفظاع هذا التوجه، على الرغم من أنه مسبوق وبكثرة، هو إرفاقه بفصول أخرى “جيدة” للعرب: فصول عن المساواة وعن الأراضي وعن فشل وتعفن الشرطة. وبإسم التوازن الأزلي في هذه الدولة، سيُقبل تقرير “لجنة أور” على أنه تقرير “جيد”، على الرغم من أنه في العديد والغالب من جوانبه سيء جدًا. سيء في الكتابة العينية والصياغات التي تكرس وتخلد التحريض والتهميش اللاحقين بالعرب وقيادتهم؛ وسيء من ناحية الخطاب العام المضمّن في التقرير والذي ينبني في الأساس، وأولا وأخيرًا، على المساواة بين الضحية والجلاد.

من أجل حماية أنفسنا من مغاب هذا التقرير الاشكالي، علينا أن نتبنى خطاب “التقرير سيء جدًا، مع بعض الأيجابيات”، بدلا من “التقرير جيد جدًا، مع بعض التحفظات”. هذا مطلوب لكي لا نُنعت بالمنافقين في المعارك الجماهيرية القادمة التي ستواجهنا بها المؤسسة بما جاء في “تقرير أور”، الذي طبّل العديد منا وزمّر له!

(نُشرت هذه المادة في ملحق “المشهد الإسرائيلي” في أيلول 2003)

ملاحظات:

القرار الحكومي رقم 2490 الصادر بتاريخ 8-11-2000.

“دفاتر عدالة”، العدد الثالث، “القانون والعنف”، ص 104.

تقرير “لجنة أور”، المجلد الثاني، الصفحة 527.

نفس المصدر، الملاحظة رقم 211.

نفس المصدر، الصفحة 521.

نفس المصدر، الصفحة 522.

نفس المصدر، الصفحة 522.

نفس المصدر، الصفحة 522- 523.

نفس المصدر، الصفحة 523.

نفس المصدر، الصفحة 523.

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *