احتضارات صيفية

 أجبرتني الظروف العصيبة على أن أخط هذه الزاوية التي بين أيديكم صباح أمس الأول الأربعاء الباكر، لأبعث بها على جناح السرعة الالكترونية الى مكتب هذه المجلة المباركة، ليتسنى للمحرر مراجعتها، وللمصمم تصميمها وللمطبعة طباعتها. من أجل ذلك، ونظرًا لامتلاء أجندتي في هذا الأربعاء، قلتُ أقوم باكرًا وأنهي هذه الزاوية على بكير، وأخرج الى العالم الشرير، منجزًا ولو قليلاً مما علي انجازه في هذه الأربعاء. وهكذا، رأيت هذا الصباح الشتوي…

يمكنكم أن تقولوا ما شئتم عن روعة الصيف وكل الصفات الحميدة التي يمكن أن تدّعوا أن الصيف الحقير يمتلكها؛ ويمكنكم أيضًا أن تصفوا الشتاء الرائع بكل ما ترونه مناسبًا من أقذع الشتائم والمسبات؛ يمكنكم كل ذلك، ولكن لا يمكنكم أبدًا أن تتصوروا مدى سعادتي وأنا أشم رائحة الشتاء تنخر منخاريّ هذا الصباح! في نشوتي في تلك اللحظة لم أستطع أن أقرر: هل أكره الصيف أكثر مما أحب الشتاء، أم بالعكس؟ هذا سؤال ما زال يؤرق منامي منذ قرون عديدة. أمس كنت ضيفًا على تل أبيب. من أجل هذه الزيارة الاضطرارية اتخذت كل وسائل الحيطة والحذر لأعود سالمًا. اليكم بعضًا منها:

لئلا أبدو عربيًا قحطانيًا، حلقت ذقني الطويلة وربطت شعري الى الوراء واشتريت نص متر لبان. كنت أود إمعانًا في الحيطة أن أهطل الى شارع أبي النواس وأن أصطحب مخنثًا أو اثنين من عرب ذلك الشارع، لنبدو معًا لأبناء عمنا يهودَ متحررين، أو على الأقل عربًا لا نعض. ولكنني لم أفعل، خوفًا على سمعتي في الديار. ففي النهاية موتٌ يكيد العدى ولا لقلقات تحرج المؤخرة!

في خطواتي التحضيرية لاقتحام تل أبيب، الحصن المنيع المدجج والمؤلل بكل ما يتطلبه الأمن من مطالب، قررت أنني برجوازي لعين وأنني لا أركب إلا التاكسيات. الباصات أصلاً ليست من مستواي. فأنا أنحدر لعائلة ارستقراطية من الريف الفرنسي، تعوّد أبناؤها على امتطاء العربات الفخمة والماكنات اللميعة. فكيف رعاكم الله كان باستطاعتي أن أركب الباصات، والباصات في تل أبيب مثل جريدة “الاتحاد”، لا تعرف في أية لحظة ستنفجر…

التدبير الثالث والأخير الذي سأرويه لكم هنا (فالحديث هو عن الصيف والشتاء، إذا كنتم تذكرون)، هو نزعتي المفرطة في أيهام رجال الأمن في كل مكان بأنني لست قلقًا. فعند الاقتراب من مدخل أي شيء في تل أبيب، يلوح لك في الأفق رجل أمن صنديد، قال فيه الشاعر: “مكرٍ مفرٍ مقبلٍ مدبرٍ معًا/ كجلمودِ صخرٍ حطّه الشاباك من علي”، عند الاقتراب منه أفتح الشنطة وأنا “كوول”. أقول له “شالوم” بعبرية اسحاقية، وأنظر من حولي كأنني أتمتع باللوحة الفنية التي رسمتها القمامة حول السطل الممتلئ من وراء الحارس. أن تكون “كوول” في تل أبيب يعني أن تحافظ على نفسك. “كوول” يعني ألا تكون عربيًا. في هذا الأمر مجازفة كبرى بالطبع. فإذا استطعت أن تكون “كوول” بنجاح، فالاحتمالات بأن يطلب منك عربي غاضب أن تغادر الباص فورًا، تصبح ضئيلةً جدًا! والبقية مضرة بالصحة جدًا…

وعلى الرغم من كل التدابير الأمنية الصارمة التي اتبعتها في غزوة تل أبيب، إلا أنني لم أستطع أن أتخذ أي تدبير ينفع مع عدو البشرية الأكبر “عُومِس هَحُومْ”. و”عومس هحوم” هو مصطلح يقوله أبناء عمنا للدلالة على حاصل تحصيل لمعطيين اثنين: المعطى الأول هو درجة الحرارة في اليوم المشؤوم، والمعطى الثاني هو نسبة الرطوبة في الجو. تأخذ/ين هذين المعطيين، وتقوم/ين بحساب هذه المعادلة: x.y/45.776809z+7z.67y/0.00980989x)). القيم المجهولة هي كالتالي: (x) يمثل درجة الحرارة، ((y يمثل نسبة الرطوبة، (z) يمثل عدد ذرات العرق على الجبين المرفوع في مواجهة الشمس. بعد حساب المعادلة نحصل على “عومس هحوم”. في الصيف عادةً يتجاوز هذا المعطى الثمانين في المئة. في تل أبيب تصل النسبة الى (140%)، من دون إضافة رائحة عرق سائق التاكسي ورائحة عرق الشخص الذي جلس قبلك على الكرسي في التاكسي، ومن دون الأخذ بعين الاعتبار الزيادة في درجات الحرارة في الجو بعد انفجار باص، لأي من الأسباب…

ثم ما العيب في أن نطالب الطبيعة بحالة جوية مريحة؟.. لماذا لا يتظاهر/تتظاهر أحد/ة ضد الطقس؟ هل أسعار الخبز أهم من الطقس؟ كيف يمكن التمتع برغيف الخبز الأسمر وأنت تختنق/ين بعرقك؟.. الجواب: لا يمكن! وأنا في طريق العودة في القطار الليلي من تل أبيب الى حيفا (الشعور بالمناسبة هو الانتقال من دولة الى أخرى)، فكرت في بعض الشعارات التي يمكن أن تُكتب على كراتين البريستول لرفعها في المظاهرة القطرية ضد الطقس. اليكم ببعض الأمثلة: “ما بتنحل القضية، إلا بْكمّن شتوية”، “يا شارون ويا شارون، هاذا عرقنا وإحنا هون”، “ونموت وتحيا.. الشمسيات” (مرّتيْن)، “بدنا نقولا عالمكشوف، شمّوسي ما بدنا نشوف”، وأخيرًا لهذا اليوم: “من حيفا طلع القرار، يا شهادة يا أمطار”.

المظاهرة ستكون صباح اليوم الجمعة، في الساعة الرابعة من بعد الظهر، عند تقاطع الشارع الرئيسي مع الشارع الفرعي. الرجاء اصطحاب المعاطف. فإذا لم تمطر بعد الشعارات، فان شرطة إسرائيل ستتكفل بتبليلنا.

جمال

(الصحفي ثقيل الدم جالس في مكتبه ثقيل الدم، وملكة جمال العالم الجديدة، كريستينا صوابيا، ملكة جمال لبنان، جالسة في غرفة فندقها الرفيهة، بعد فوزها باللقب الكبير. الهاتف يرن في غرفة الفندق: )

أنا: مرحبا كريستينا.. مبروك..

كريستينا: ميرسي لألله..

أنا: خبرينا عن شعورك بهَالّلحْزَه..

كريستينا: شعوري كتير كبير وحلو، خاصةً إنو الكل حكالي إنو متوفره فيي صفات الجمال والزكاء..

أنا: عزيم خيتي.. ممكن تخبرينا عن أهم الصعوبات اللي واجهتك في هالمُسابأه…

كريستينا: أيه.. كتير كان شعوري كبير وحلو، خاصةً إنو الكل حكالي إنو متوفره فيي صفات الجمال والزكاء..

أنا: أيه، حكتيلي.. وبالنسبة للصعوبات..

كريستينا: السّعوبات؟.. أيه..  يعني شعوري كتير كبير وحلو، خاصةً إنو الكل حكالي إنو متوفره فيي صفات الجمال والزكاء..

أنا: ولك يا عمي طيب، بس إحكيلي.. إحكيلي عن الصعوبات.. يعني الفستان كان ضيق، الصدرية شوّكت شوي..

كريستينا: يا خيي إلتلّك.. شعوري كتير كبير وحلو، خاصةً إنو الكل حكالي إنو متوفره فيي صفات الجمال والزكاء..

أنا: بس يا خيتي أنا يعني متصل على طوكيو، ومدير المجلة عنان حمام، بتعرفيه، بدو شي تصريح منيح منك، يعني عالهأل نِطلع حأ المكالمة. إحكي عن الصعوبات.. هلأ!!

كريستينا: ما تعيط علي.. إلتلك شعوري كتير كبير وحلو، خاصةً إنو الكل حكالي إنو متوفره فيي صفات الجمال والزكاء..

أنا: ولك يا حبيبتي عم إلك إحكيلي عن الصعوبات.. الصعوبات.. شو فيها هيدي؟ الصعوبات!

كريستينا: بس ما حدا أللي شو رح بجاوب عن السّعوبات… آني حفّزوني عن شعوري.. شعوري كتير كبير وحلو، خاصةً إنو الكل حكالي إنو متوفره فيي صفات الجمال والزكاء..

نكتة

ننهي بنكتة مع مضمون وحكمة من كتاب “تحية طيبة وبعد” للكاتب والمفكر اللليبي الصادق النيهوم:

“فالناس يحكون هنا… أن الأب أليكسي زخاروف كان يزور راقصةً متقاعدةً عندها ببغاء، وكان الببغاء يقول بوقاحة في حضرة الأب: “أنا بائعة هوى.. أنا بائعة هوى..”. فقال الأب أليكسي زخاروف للمرأة ناصحًا: “يا سيدتي أنا أملك في الكنيسة ببغاوين مباركين لا يعرفان شيئًا سوى الانجيل. فإذا تركتني أضع ببغاءك معهما فلعله سيتعلم منهما كلمة طيبة..”. وافقت السيدة بالطبع وحمل الأب أليكسي زخاروف الببغاء الوقح الى الكنيسة ووضعه مع طيوره في القفص. فلم يلبث أن صرخ كالعادة: “أنا بائعة هوى.. أنا بائعة هوى.”. إذ ذاك رفع أحد ببغاوات الأب أليكسي زخاروف رأسه وقال لزميله: “أيفان.. إرمِ الانجيل فقد استجاب الرب لدعواتنا.”.

عزيزتي

إذا كنت اشتقت اليك؟.. إسألي هاتفك النقال…

(نشرت هذه المادة في ضمن زاوية “ع الهدا” في مجلة “الناس”، 2002)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *