أميرة تغادر غاضبة

كان “المقهى الصغير” يخلو من الرّواد اللهم إلا من الرواد الدائمين الأزليين. اقتعدت جولي طاولة في الخارج على الرصيف واتضح من علوّ ضحكتها أنها شربت ما يكفي من البيرة. كانت في وسط رشفتها عندما رأت سمير يقترب منها فانتفضت.

“أيها الكاذب اللعين”، قالت بإنجليزية ركيكة، وأغرقت ضحكًا.

“إسمحي لهذا الكاذب الوضيع أن يقدم اعتذاره الحارّ والموجع للقلب”، قال مُحنيًا ظهره بعض الشيء بحركة فروسية.

“أوه ساميير، ما ألطفك.. مع أنك جعلتني أنتظرك منذ الثامنة، ما الساعة الآن؟”

لم تستطع تبيان الساعة فقهقهت ثم لعنت البيرة وأخيرًا نادت النادل:

“ماذا تشرب مسيو سمير؟”

“جين وتونيك.”

“أوه، جين وتونيك؟.. وأنا أيضًا أرغب بالجين مع التونيك.”

وبحركة سريعة أفرغت ما تبقى من قنينة البيرة (نصفها) في جوفها وأعطت الكأس الكبيرة للنادل.

“يبدو أنني لن أستطيع التغلب عليكِ في الشرب أبدًا.”

“يمكنك أن تحلم فقط”، قهقهت، “فأنا رضعت كحولاً صافيًا.”

“يا إلهي، فلأنجُ بجلدي إذًا”- وافتعل القيام.

قهقهات عالية. صمت.

“معرض جميل.”

“شكرًا.”

“لا، حقيقة أنا لا أقول ذلك لأجاملك، ليس من عادتي مجاملة أحد بشراء معرض بألوف الدولارات.”

“أراكِ قد قررتِ شراءه.”

“نعم. لقد ذهبت اليوم مرة أخرى إلى هناك، فالافتتاح يكون عادة للشرب والاجتماعيات. من يحبّ الفن يأتي بعد الافتتاح. ولأنني أحبّ الشرب والفن فإنني أذهب مرتيْن.”

“حكمة السّكارى.”

“المعرض ممتاز جدًا عزيزي. الأعمال الفنية قمة في الحساسية والفظاظة في آن. نوع من التعقيب الآني على التغيرات التي تحصل من حولك. لا تنسَ أنه كلما كانت التغيّرات أكثر حدة  أصبح العمل الفني لاذعًا أكثر ومتطرفًا أكثر.”

“وهل تدلّ أعمالي على تغيّرات كبيرة من حولي؟”

“تغيرات هامة بما فيه الكفاية. أعمالك تذكّرني بما يدور الآن في روسيا. الأزمة الاقتصادية والتغيّرات الهائلة التي لم تمهل أحدًا للتأقلم معها أمْلت على فنانين روسيين كبار اليوم اتباع خط نقديّ وواقعيّ-تهكمي مثل رسومات وأعمال إيڤان نوبوجونوپ.”

ما لفت انتباه سمير هو غياب آثار السكر التي بدت عليها قبل دقائق.

“أراكِ عندما تتكلمين عن الفن تعودين لرشدك.”

“صحيح، صحيح جدًا.. ولذلك عليّ أن أفقده حالا، بصحتك!”

“بصحتك.”

أكثر ما يشغله الآن هو المبلغ الذي سيتقاضاه لقاء المعرض. المعرض السابق بيع بمعظمه واستطاع بثمنه شراء سيارة صغيرة وقديمة. ربما سيستطيع شراء واحدة أفضل الآن. واحدة لا تتعطل كل يوم.

“بماذا تفكر؟”

“باقتراحك شراء المعرض.”

“هل تفكر بالمبلغ الذي سأدفعه لك؟”

“شيء من هذا القبيل.”

“لا تقلق. أنا أقدّر الأعمال الجيدة.”

“وأنا أقدر تقديرك هذا. بصحتك!”

عندما عاد إلى الشقة بعد الثانية عشرة بقليل فوجئ بأميرة وليليان تجلسان في الصالة. ولماذا فوجئ؟.. هل نسي أنّ ليليان بقيت عنده والله وحده أعلم إلى متى وأنّ أميرة متواعدة معه على المجيء؟ حتى إنّ قنينتي النبيذ موضوعتان على الطاولة.

“مساء الخير.”

“أهلا.”

“أيّ حظ حالفني لأجد حسناويْن اثنتين في صالتي بعد يوم منهك؟”.. قال بالعبرية.

“إمك داعيتلك”، قالت أميرة مبتسمة. بالعربية طبعًا.

ليليان ابتسمت من باب الأدب.

“هل تعشيتَ؟”، سألت ليليان محوّلة الحديث إلى العبرية.

“لا، أنا أتضوّر جوعًا.”

“لن تصدق ما اكتشفت اليوم، ليليان طباخة ماهرة.”

“أيّ شرف لي أن يتبارك مطبخي بيديك!”

قامت ليليان إلى المطبخ ضاحكة وجلس سمير مكانها.

“ماذا جرى لك؟.. تبدو منهكًا.”

“يوم طويل.. طويل جدًا.”

“هل التقيت عباس؟”

“نعم.”

“و؟..”

“تحادثنا. كنتُ قاسيًا معه قليلا. وأنتِ؟”

“لا. لم أشعر بالرغبة في الاستماع إليه يبرر ويعاتب ويعلن عجزه عن الاستمرار هكذا.”

“وأنتِ؟”

“ماذا أنا؟”

“هل ستعلنين له عجزك عن الاستمرار هكذا؟”

“أكيد.”

“متى؟”

“حين يحين الوقت.”

“حين يحين الوقت.. نتنياهو علّم كلّ من في هذه الدولة العطبة.”

“ما لي أنا ولنتنياهو؟ أنا لا أشاهد الأخبار أصلاً.”

“حضّروا الطاولة”- جاء صوت ليليان بعيدًا من قلب المطبخ.

“وما قصتها هذه؟”

“غدًا، غدًا.”

دخلت ليليان مهرولة تحمل وعاءً مستطيلاً كبيرًا مليئًا بالأرز المطبوخ بمرقة الأرضي شوكي. سمير لم يحتمل الانتظار وغرف  من الأرز بيده.

“يا إلهي ألا تتغير أبدًا؟”

“ولِمَ  أتغيّر؟.. ألستُ سعيدًا بما أنا عليه؟”

“وغيرك؟”

“تقصدين أنتِ مثلا؟”

“فلنقل!”

“إذا كان يزعجك ما أنا فيه فلِمَ تكونين معي؟”

“بليد.”

“فلنقل إنني جائع.”

عادت ليليان بالسلطة والدجاج المقلي بالزبدة والسماق. كانت الرائحة رائعة.

“ليليان”، أين كنت كل هذه المدة؟.. أأكون جارك سنتين ولا تدعينني إلى الطعام مرة واحدة؟”

“وأنتَ لم تدعُني أيضًا.”

“آه، غلبتني، هيا تفضلا!”

“شكرًا. لست بجائعة”، قالت أميرة بجفاء وأشعلت سيجارة.

“هيا أميرة، ستندمين”، حثتها ليليان.

“شكرًا. أعتقد أنني سأغادر الآن.”

“لا!” تفاجأت ليليان.

“لم نجلس بعد.”

“يمكنك أن تجلس معها ما تشاء، أيها البليد”- قالت بالعربية.

“كما تريدين”، أجاب بالعبرية.

طرقتِ الباب وراءها بشدّة.

“هل سببتُ المشاكل؟”، سألت ليليان بقلق.

“لا أبدًا. هذه عادتها. دعينا من كل هذا وهيا نتركز بالطعام اللذيذ.”

كانت الوجبة عظيمة والقهوة التي أعدّتها ريثما استحمّ كانت أعظم. ها هو يجلس الآن مع ليليان التي كانت حتى اليوم مجرد جارة جميلة وشابة يبادلها التحية وأحيانا بعض الأحاديث عن الجامعة والتعليم. يروي ذكرياته باقتضاب وتسهب هي في الحديث عن متاعبها في الكلية.

“ربما عليّ الذهاب، لا أودّ أن أسبب لك المشاكل في حياتك.”

“دعكِ من هذه الأفكار. قلتُ لكِ إنّ هذه عادتها. غدًا ستعود الأمور إلى مجراها. ثم هل نسيت أنّ لا مكان تذهبين إليه الآن؟”

حسنا. لقد أخطأ. لم يكن عليه تذكيرها بأنه يؤويها في شقته. كان عليه الاكتفاء بالشطر الأول من الحديث.

“لم أنسَ”، قالت بهدوء.

“أنا آسف جدًا، صدقيني.. لم أقصد أيّ شيء.”

“أعلم ذلك، أنت إنسان طيّب.”

“هل ترغبين بالمزيد من القهوة؟”

“نعم، شكرًا.”

“لم تخبريني، أين تعلمتِ إعداد القهوة العربية؟”

“قصة طويلة.”

“والليل طويل.”

(إلى صفحة الرواية)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *