أخماس وأسداس

علاء حليحل

* العرض الساخر “شمّاس ونحّاس”، في مسرح “الميدان” السبت الماضي، وضع معايير جديدة للسخرية والكوميديا السوداء المحليين، في صدقه ورقي المضامين التي قدمها *

حنا شمّاس وأيمن نحّاس توصلا الى معادلة ناجحة. قد يكون من الصعب استعراض كل مركبات هذه المعادلة، ولكن من الواضح أن عددًا من المركبات الرئيسية لهذه المعادلة برز بشكل كافٍ في العرض الذي قدماه في قاعة مسرح “الميدان” في حيفا، مساء السبت الماضي، وعددًا آخر من المركبات برز بشكل أخفّ. في هذه المقالة محاولة لتتبع أطراف المعادلة الناجحة التي جعلت من عرض “شماس ونحاس” الساخر، حلقة مهمة، قد تكون ركيزة لعروض أخرى ساخرة، تأتي منهما، ومن غيرهما، في سبيل خلق مسرح ساخر يطرح بديلاً للواقع الجدي جدًا الذي ينخر عظامنا:

الأصالة: كمن يعرف حنا وأيمن عن قرب نسبي، توجستُ قبل العرض وتخوّفتُ من أن يقعا في مطب تقليد مسرحيات زياد الرحباني، قالبًا ومضمونًا. فكل من يحب زياد الرحباني ويقدر فنه (على أشكاله العديدة) يقع في هذا المطب على الأغلب، بحيث تتحول عبقرية زياد الرحباني الى غذاء للببغاوات العاجزة فنيًا. شماس ونحاس تجاوزا هذه المعضلة بخلق أسلوب خاص بهما، قالبًا ومضمونًا. من هذه الناحية، يبدو لي هذا الانجاز مصيريًا في سياق استمرارية مثل هذه العروض، عندهما خاصةً. فالمضامين التي قدماها وردت في قالب من الأداء السلس والهيّن (في غالبية المقاطع، وأقل في أقليتها)، من ناحية تقمص الشخصيات التي أدياها. من قبيل المفارقة، كان على نحاس وشماس أن يلعبا أحيانًا شخصيتيهما على المسرح، وهذه تقنية ممتازة جعلت المسافة بين الجمهور المترقِب وبين شماس ونحاس أقرب ما تكون الى الحميمية. لماذا؟.. لأن شماس ونحاس أوصلا بلاغًا غايةً في الأهمية الى الجمهور: نحن سنتمسخر على كل شيء، وبما في ذلك علينا نحن الاثنين. بمعنى آخر: نحن لن نستعلي على أحد، لن نذم أحدًا لمجرد الذم، نحن في خندق واحد وكلنا مبللون. فتعالوا نضحك على هذا البلل…

المستوى: حتى حين كان شماس ونحاس يقعان في مطبة صغيرة من ترخيص النكتة أحيانًا، إلا أن هذه اللحظات النادرة كانت تضيع في بحر الجودة وإرتفاع مستوى الكوميديا. فالعرض لم يكن مبنيًا على نكات الشارع. هناك عدد من الساخرين يلجأون بشكل شبه مطلق الى إعادة إنتاج النكات التي يسمعونها في الشارع، ويقدمونها على انها مقاطع مسرحية لاذعة. “نُكتجيي” يعني. شماس ونحاس لم يفعلا ذلك، ومن هنا مصدر الابداع: إجتراع المواقف، بناء ملامح الشخصيات، خلق الموقف الذي يقود المشهد ويسيطر عليه ثم يؤدي به الى النهاية الجيدة. شماس ونحاس حاولا ونجحا في اجتياز حاجز ترقبات المشاهد العادي، لساعة ترفيهية، يعمل فيها المقدم من نفسه دبًا وسعدانًا. في نجاحهما هذا وضع الاثنان معايير جديدة وهوية إبداعية للسخرية والكوميديا السوداء المحليتين. في المشاهد التي قدماها الكثير من النقد اللاذع والتهكم الهادف. أشبه ما يكون بوضع مرآة أمام العربي الملعون بألف لعنةٍ في هذه البقعة من الأرض، الذي يضرب أخماسًا في أسداس، ليل نهار، صباح مساء…

الهرمونيا: كان واضحًا وبما لا يقبل الشك، أن شماس ونحاس هما زوج من المبدعين متكامل: الارتجالات العفوية، المجهود الناجح في تجنب الميلودراما أو الجهد الكوميدي التمثيلي الزائد، فلم تسمع صراخًا طيلة العرض أو غناءً فجًا أو حتى تقليدًا سخيفًا لأحد. الملاءمة شبه التامة بين الاثنين غفرت بشكل نهائي بعض مصادر الضعف، التي منعت بعض المشاهد من الارتقاء الى قطع فنية متكاملة. برأيي، على الاثنين أن يوليا هذه النقطة اهتمامًا في الأعمال المستقبلية، لأن الجمهور الذي سيكون مخلصًا لعروضهما، لن يستمر في الغفران، بعد أن يعتاد على المستوى الذي يقدمه شماس ونحاس. وقد تكون هناك بعض المآخذ على الأداء المهني في المشاهد التي كانت تحتاج الى مقدرات ممثلين محترفين، ولكن هذه أمور تُكتسب. الخامة الأساسية التي لا يتم شيء بدونها موجودة وحية جدًا. كل الطرق من هنا مفتوحة أمام الاثنين…

الجرأة: اليكم بعض “البذاءات” التي وردت في العرض: “خرى، كُس أختو، شخّيت، زمبعت، طيزي”. الانجاز الذي حققه شماس ونحاس ليس في إطلاق “البذاءات” في الهواء من أجل الاستعراض و”شوفوني يا ناس”. الانجاز يكمن في التلفظ بهذه الكلمات في المواقع التي كان لا بد من التلفظ بها. كانت هناك جمل لا يمكن أن تحل فيها شتيمة أخرى بدلا من الشتيمة إياها. لا يمكن. أية كلمة كانت ستأتي كانت ستضعف المشهد. وبالتالي فان الصدق الفني أمام الجمهور، جعل الأخير يتقبل ويضحك ويبتسم. ربما امتعض البعض. لا يهم. هل تتغير نشرة الأخبار إذا أعربنا عن امتعاضنا مثلا؟ ثم أن العرض بتذاكر ولا يأتي اليه إلا من يرغب. من يخَف على أذنيه من الألفاظ الصريحة التي يقولها هو بنفسه ألف مرة في اليوم، مدعو بحرارة للبقاء في بيته! كما أن المشهد الذي تعرض للخوري في القداس كان غايةً في الجرأة. الى درجة أن شماس ونحاس لم يشعرا بحاجة الى أداء مشهد عن إمام أو شيخ، من أجل الموازنة. في هذا المشهد مقولة هامة: لا شيء مقدس، لا شيء معصوم عن التهكم والنقد- وقد أعذر من أنذر!

على عكس هذه المقالة الجدية وغير المضحكة، كان عرض “شماس ونحاس” مضحكًا ومثيرًا وباعثًا على الاعجاب الى أقصى الحدود. كنتُ في موضع آخر قد اقترحت على مسرح “الميدان” أن يتبنى قسمًا من طاقم “مشهد من فوق الجسر” كطاقم ثابت في المسرح، فكان الجواب بعد أسبوع بفصل محمد بكري. أرجو ألا تتكرر هذه الصفعة لنفسي المتألمة والمعذبة، لأنني أرى –وأعتقد أن كل من حضر العرض يوافقني- أن على “الميدان” أن يدرج هذا العرض في برنامج الانتاجات المحلية الذي أعلن عنه في إجتماعه العام الأخير. وإلا، فسنظل ننتظر غودو، في جدية مفرطة…

(نشرت هذه المادة في “فصل المقال، آب 2002)

 

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *