“كارلا بروني عشيقتي السرية”: استنباط الكتابة من العقل والتجربة لا من الأنماط المقدسة!/ أنطوان شلحت

ولئن كانت مناطق فلسطين الخاضعة لإسرائيل هي المكان الأكثر استقرارًا الذي يعيش فيه الفلسطيني أولاً ودائمًا، لمسًا ورؤية، فإن ملامح تلك المرحلة تتبدى أساسًا لدى الأدب الجديد أو أدب الشباب… إلى هذا “الأدب الجديد” يمكن أن ننسب علاء حليحل، ولا سيّما في مجال كتابة القصة والرواية

أنطوان شلحت

لا يخفي علاء حليحل (أنظر حوار عناية جابر معه في جريدة “السفير” البيروتية، 18/8/2012)  أننا بحاجة في الوقت الحالي إلى عناصر جذب وطرق تفكير جديدة تهدف إلى الحفاظ على الأدب ووجوده وانتشاره، بما في ذلك العناوين الجذابة على غرار عنوان مجموعته القصصية الجديدة “كارلا بروني عشيقتي السرية” (كتب قديتا، عكا 2012)، لكن من دون أن يتسبب ذلك بالانزلاق إلى تسويات بخسة، أو بإسقاط الرهان على المستوى والمضمون.

بكلمات أخرى يعتبر الكاتب، ربما على طريقة ميكيافيلي، أن من المسموح به استخدام كل الوسائل في محاولات توسيع رقعة الأدب وقرائه، شرط أن يكون ذلك مقرونًا باستنباط الكتابة وقوانينها من العقل والتجربة، لا من القوالب الجاهزة أو الأنماط المقدسة.

تضم هذه المجموعة جميع الجانرات التي سبق أن طرقها الكاتب خلال مسيرته الإبداعية، بدءًا من النوفيلا (“كارلا بروني عشيقتي السرية”)، مرورًا بالقصة القصيرة، وانتهاء بالقصة القصيرة جدًا (“قصص عن قصائد لم تكتب بعد”).

وبالتالي فهي تشكل عالمًا مصغرًا لمناخه الأدبي، الذي بدأ يتكوّن منذ أول رواية (“السيرك”، 2001) وأول مجموعة قصصية (“قصص لأوقات الحاجة”، 2003).

ولقد اختار الكاتب أن يصف القصة الطويلة، التي سمى مجموعته باسمها، بأنها قصة ثيمتها “البوست كولونياليزم”، وهو توصيف يحيل مباشرة إلى “البوست مودرنيزم”، أي ما بعد الحداثة، على مستوى الشكل والأسلوب. غير أنه في كتابته الما بعد حداثية ينحو- بقصد أو بغير قصد لا يهم- نحو قلب الآية في هذا الأسلوب رأسًا على عقب.

فبينما ينكر أدب ما بعد الحداثة، على وجه العموم، وجود المعاني الدالة في العالم العبثي الذي نعيش فيه، لاعتقاده بأنه عالم خال من أي عمق أو دلالة تحت السطح، وعالم منقسم إلى بؤر عديدة مشتتة وغير مترابطة فيما بينها، بحيث لا يعود هناك غير اللحظة الراهنة ليتعامل معها المبدع، فإن نص حليحل لا يفتقر إلى البحث عن معان دالة حتى وهو يتعامل مع اللحظة الراهنة، من دون أن ينأى بنفسه عن المحاكاة الساخرة لهذا البحث.

وهو يفعل ذلك بأسلوب أصيل وخصوصي، وبعملية أقرب إلى الإبداع منها إلى مجرّد اللهو العابث، كما يتبدى في معظم نصوص هذا التيّار.

مع ذلك فإننا نعثر في المجموعة على كل ما يشف عن التصورات ما بعد الحداثية التي يلجأ إليها كتاب هذا الأدب، والتي أدرجتها النظريات النقدية الخاصة به ضمن وسائل تعبير متعددة مثل السخرية، واللعب، والتهكم، والكوميديا السوداء، والتشتت، والتقطيع، والتناقض، والمعارضة الأدبية، وكسر الزمانية، وتضمين أنماط كتابية لم تكن معهودة ضمن السرد القصصي وفي مقدمها نمط ما وراء السرد أو ما وراء القص (الميتاقص).

لعلّ أكثر ما يُكرث حليحل، في هذه المجموعة يتمثل في تصوير الحاضر كما نعيشه دون تحوير. ومن هنا كان صدقه المتناهي في عرض هذا الحاضر كما هو، من غير تفلسف أو ادعاء، ومن غير رغبة في أن يستخلص منه الدروس أو أن يستقي منه العبر

وقد مكنه ذلك من أن يربح رهانه على إشهار ذلك التمايز الحاسم بين القصة والرواية في أدب الحداثة وأدب ما بعد الحداثة، والذي يؤكد الباحث شانون وليامز (في دراسته “خصائص الرواية في ما بعد الحداثة”) أنه يقوم على حقيقة أن القصة الحداثية تتيح للكاتب إمكان خلق كون منظم يسمح للقارئ باستخلاص عبارات عن الخبرة الإنسانية من تعقيدات الوجود الحداثي. وهو يقارن وظيفة القصة في أدب الحداثة بوظيفة الأسطورة باعتبارها تؤسس وتعزّز نظام المعتقدات العامة الذي يتم تركيب المجتمع عليه، بينما تسعى القصة في أدب ما بعد الحداثة إلى تطبيق فوضى الوجود المعاصر على بنية الشكل والمضمون، وإلى تفكيك القوانين والقواعد السردية المتعارف عليها من أجل فضح زيف الأسطورة التي تروج لنظم عقائدية مستندة إلى الوهم. وبذا فإن السرد الحداثي، وعلى الرغم من موقفه النقدي العميق، يسعى إلى دعم واستمرارية النظام، بينما يشكل السرد ما بعد الحداثي تهديدا كاملا للنظام.

ولا شك في أن نص حليحل يعكس جوهر المرحلة التي يعيشها الأدب الفلسطيني في الداخل الآن، وهي مرحلة ذات خصوصية لم تكتمل ملامحها بعد، لكن ما يؤثر فيها، أكثر شيء، هما عاملا الزمان والمكان.

وتأثير العامل الأول يستمد مشروعيته من السؤال الذي لا يزال يؤرق النقد الفلسطيني، والمرتبط بموضوعة الزمان الذي ينبغي بالنص الفلسطيني أن يخلص له.

أما عامل المكان فقصة أخرى لم تخضع بعد للنقد العميق بالنسبة إلى مختلف أماكن وجود الفلسطيني، وإن في ضوء حقيقة موضوعية واحدة هي أن المكان بالنسبة إلى الفلسطيني هو ليس الذي يعيش فيه الإنسان، مثل كل شعب في العالم، فحسب وإنما أيضًا الذي يعيش في الإنسان الفلسطيني.

ولئن كانت مناطق فلسطين الخاضعة لإسرائيل، فيما يعرف باسم “منطقة 1948″، هي المكان الأكثر استقرارًا الذي يعيش فيه الفلسطيني أولاً ودائمًا، لمسًا ورؤية، فإن ملامح تلك المرحلة تتبدى أساسًا لدى الأدب الجديد أو أدب الشباب [وليس الأدب الشاب، حسبما درجت العادة أن يقول البعض، عبر التغاضي عن كون الأدب أدبًا فقط، لا يمكن تأطيره ضمن مراحل عمرية].

 إلى هذا “الأدب الجديد” يمكن أن ننسب علاء حليحل، ولا سيما في مجال كتابة القصة والرواية.

وبمتابعة ما يكتبه، ارتباطًا بمحوري الزمان والمكان، بمقدوري أن استقطر مما يميز هذا الأدب الجديد العناصر الآتية:

* أولاً- له تعبيره الاجتماعي والثقافي، وله شهادته المخصوصة على المجتمع.

* ثانيًا- فيه انخفاض في نبرة الصراخ والأدلجة.

* ثالثًا- ينطوي على اقتحام لمناطق لم تكن الطرق إليها مشقوقة في مجال التجريب والتجديد.

* رابعًا- تحدي التابوهات الاجتماعية والثقافية (كما تمثل على ذلك بعض الكتابات الأيروسية لهذا الجيل).

ويمكن الافتراض بأن كل هذه العناصر الأربعة ناجمة عن أن علاقة هذا الأدب الجديد مع المجتمع تبدو، من وجهة نظري، علاقة خالية من الخجل أو التنكر.

ومثل هذه العلاقة تندّ عن دلالة مزدوجة: هناك، من جهة، تصالح مع هذا المجتمع. وهناك، من جهة أخرى، قدرة فائقة على نقد هذا المجتمع.

من هنا نصل إلى عنصر خامس هو الصدق في عرض الواقع.

وتتميز لغة هذا الأدب الجديد بأن فيها إيحاءات عميقة، لكنها في الجوهر لغة مباشرة- وهي المؤهلة وحدها للتعبير عن العالم الذي تصفه باعتباره عالمًا حادًا، عنيفًا، حارًا تكذب أي لغة أخرى لو حاولت التعبير عنه. لغة تبتعد عن الكتابة الطهرانية، أسيرة البلاغة العربية.

ولعل أكثر ما يُكرث حليحل، في هذه المجموعة، يتمثل في تصوير الحاضر كما نعيشه دون تحوير. ومن هنا كان صدقه المتناهي في عرض هذا الحاضر كما هو، من غير تفلسف أو ادعاء، ومن غير رغبة في أن يستخلص منه الدروس أو أن يستقي منه العبر.

بيد أن نفي التفلسف من ظاهر الكتابة لا يعني غياب أي تصور أو رؤية فلسفية عن أفقها.. والحقّ أن جرعات هذه الرؤية ازدادت في المجموعة الحالية، كون الذات الساردة فيها كانت أعمق خبرة ومعرفة من تلك التي أطلت علينا في الأعمال السابقة.

ومثل هذا التصوير يتوافر على ما يمكن اعتباره “دعوة مزدوجة” من جانب صاحبها.

فهي من جهة أولى دعوة إلى أن نتخلى عن جهلنا أو تجاهلنا لواقع يملأه الصدأ والوهم. ومن جهة أخرى دعوة لأن نلعب ورقة الكينونة ضد مقاربة “ما يجب أن يكون.”… فالكينونة، برغائبها وعلائقها المادية والنفسانية واشتهاءاتها، هي أيضًا من العناصر الأساسية التي ستسعفنا في إزالة الغشاوة عن أبصارنا، وفي مدّ الجسور لمصالحة الذات والمجتمع.

(عن “الطريق”)

  (نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 4 كانون الثاني 2013)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *