الضعف سِمَة القوة: جماليّات الاختلاف في رواية “أورفوار عكّا”/ ريم غنايم

|ريم غنايم|

تستوجبُ كلّ محاولة أدبيّة تتطرّق إلى فتح قمقم التاريخ بمراحله المصيريّة،  إلى إعادة النّظر في أشكال الكتابة السّرديّة للمادّة التاريخيّة، وإلى إعادة تصوّر للعلاقة التي تربط بين السّرد المدعوم بالتخييل والمادّة التاريخيّة المستعارة والمدعومة بالتّوثيق. الإنجاز الذي يحقّقه الكاتب في هذا الرّبط، يكمنُ في قدرته على الخلق والابتكار، وإعادة إنتاج للمادّة التاريخيّة في إطار تخييليّ يُقصيها عن قداستها كـ “حقيقة” تاريخيّة من جهة، ويفتحها على تأويلات جديدة من جهة أخرى مُكسبًا إيّاها هويّة وجماليّات جديدة بمقاييس حكم وذائقة وأشكال طرح جديدة.

يحقق الكاتب الفلسطينيّ علاء حليحل في في روايته الصادرة حديثًا عن دار الأهليّة “أورفوار عكّا” إنجازًا كبيرًا في قيمة انتزاع حادثة تاريخيّة من جفاف تأريخها وعزلتها، وتحويلها من مادّة صلبة إلى مادّة رخوة بعيدة عن مرجعيّاتها المألوفة ليكوّن صورة أدبيّة فنيّة متماسكة ناضجة يختلط فيها الجد بالهزل والفن بالتاريخ والحقيقة بالتخييل. في خمس وثلاثين “وقعة” تبدأ في 24 آذار وتنتهي في 30 أيار، يعيدُ حليحل، بسلطة السّارد العليم، وصف الحكاية التاريخيّة لحصار عكّا على يد الفرنساويّة وتصدّي الجزّار وجنوده لهم (وفي الخلفية ترتسم حكاية أخرى: السفينة التي أحضرها نابليون إلى جنوده محملة بالمومسات الباريسيات ليشاركن بأجسادهن في رفع معنويات الجنود الفرنسيين ).

يعيدنا  الكاتب إلى الزوايا الحميميّة لأشكال قراءة مرحلة تاريخيّة بدون أسطرتها أو أدلجتها ليقدّم لنا الضّعف عبر القوّة، والحميميّ عبر القسوة والجمال الكامن في قلب البشاعة: كيف تبدو شخصيّة أحمد باشا الجزّار بوصفه إنسانًا له غرائزه واهتماماته وانهزاميّته وحميميّاته في أوج جبروته وقسوته، وكيف تخرج شخصيّة تاريخيّة من سروالها التاريخيّ الفضفاض لتكتب ملامح جديدة لم نألفها من قبل. تدخل الرواية من هذا المنطلق في زاوية التّجريب الذي يطوّر الرؤية التاريخيّة معيدًا إنتاجها في اتّجاهات أخرى خارج سلطة التاريخ محافظًا على الدالة الخطيّة للأحداث وعلى الانعطافات السّرديّة التي تراهن على تفجير المادّة التاريخيّة وتحويلها إلى رزمات من التفاصيل الصغيرة المخبأة داخل هذا التاريخ.

ثمة نقاط عديدة تستوجب الوقوف عندها بحُكم الطّرح التاريخيّ الذي تتناوله الرواية، وبحُكم أشكال التّعامل السرديّ والجماليّ معه. يمسك الأديب علاء حليحل هذه العصا من المنتصف: فهو يحافظ على بنيان عمله الأدبي من حيث كونه معمارية سردية تقوم على التخييل والمسرحة، بالتوازي مع السرد التاريخي لحادثة حصار عكّا محدثًا انسجاما تاما بين القراءة التاريخية والقراءة الجماليّة، مستفزًا القارىء في تفاصيلها المنسيّة، وجامعًا بين الفجاجة والسّخرية والاستعراض المسرحيّ للشخصيّات، وبين التصنيف والتبويب الدقيق لسير الأحداث التاريخيّة وتفاصيلها مشتغلاً على استراتيجيّات تفتيح التفاصيل المنفيّة عنّا في قراءة الوقائع كجزء من التاريخ.

تكرر رواية أورفوار عكّا الحكاية التاريخيّة. هذا التكرار هو القاعدة التي يتأسس عليها النصّ  في أكثر من مائتين وأربعين صفحة لكنه يتّخذ أولاً شكل الاختلاف مخرجًا السّرد من سطوة التّاريخ ومدخلاً القارىء في متاهات المسرحة على طريقة المآسي الإغريقية والمسرحيات الشكسبيريّة التاريخيّة التي تتّخذ من الواقعة التاريخيّة ذريعة لتدخل في متاهات الكلام عن السلطة والجرائم والخيانات على أنواعها. ففي التاريخ تغيب دلالة الإنساني، وتتكثف دلالة التمثيليّ، وفي الأدب يتلقى القارىء جرعات سردية تعيد صياغة السؤال التاريخي وتفتحنا على مساءلات فكرية وفنيّة وإنسانيّة بعيدًا عن السرد التجريدي الذي نتلقّاه في قراءة موادّ التاريخ: الجسد الأنثويّ بوصفه مصدر إلهام، وبوصفه ساحة تُمارَس عليها كافّة القمع والاضطهاد. السّلطة بوصفها ساحة صراع ومحفزًا على الخيانات والانقلابات، والإنسان بوصفه مزدوجًا، يحافظ على قسوته وجبروته و “ألوهيّته” من جهة فيما هو كائن هشّ يحتمي بذاكرته وماضيه الأكثر هشاشة منه من جهة أخرى.

ثانيًا: يعتمد حليحل على الكتابة الحسية، فهو يستخدم جرعات مكثفة من التخييل والفانتازم مهيئًا للقارئ أرضية خصبة للأحداث تمكّنه من شمها وتذوّقها والاحساس بها عبر تعرية الأبطال والكشف عنهم لا كنماذج تمثيلية وإنما كنماذج بشرية. وهو بهذا يبني فرادةً ما للنصّ التاريخيّ المعروف.

ثالثًا: بين تاريخ بونابرت والجزّار، يُنتِجُ الكاتب حيّزًا أو فضاءً ثالثًا لهذا التّاريخ يفسح للقارىء مجالاً لإعادة تقييمه بعيدًا عن قتل التاريخ للتفاصيل الحميميّة وقريبًا من المرح والعنف والشرّ والخيانة، وهي أعمدة كلّ عمل أدبيّ (مسرحيّ) تشويقيّ جيّد. يؤالف حليحل بين الشخصيّات التي يرسمها التاريخ بعين العداء والتعارض والتقابل، والهويّات المختلفة المتطاحنة. هو يرسم أمامنا بشرًا ومؤامرات كالتي يرسمها شكسبير في مسرحه وذلك عبر أنسنة الحكّام والقادة المستبدّين وتحريرهم من سلطة التاريخيّ الجاف، ويعرّي أمامنا الأجزاء الأكثر دفئًا في حياة كلّ منهما. ولعلّ الكاتب من خلال فتح الغرف الحميميّة عند البطلين (رسائل العشق، الخيالات المحرّمة، الانفعالات الانسانيّة، الذاكرة المجروحة وغيرها) قد أفصح عن جماليّات الضّعف الذي يدعم قوّة هذه الشخصيّات وجبروتها وكأنّ المواطن التي يشتركان فيها إنسانيًا ما هي قاعدة انبنت عليها القوّة.

ما لم يرسمه التّاريخ بين ثناياه حول بونابرت والجزّار- رسمه السّرد بدقّة ورشاقة. رسائل نابليون إلى حبيبته والتي كانت تصل الجزار ويقرؤها الترجمان إبراهيم تكشف عن جوانب أخرى لهذين القطبين: الجزار ونابليون وتقدّمهما بشكل مختلف. فهما يلتقيان في ضعفهما أمام الرغبات والغرائز رغم قسوتهما في الخصومة والعداء:

“ابتسم الجزار ببعض الاحتقار وتخيل هذا القزم المتهور وهو يدس وجهه تحت إبط جوزفين هذه، وشعر برغبة في التقيؤ. أهكذا يفعل الرجال؟ لا والله ما هكذا يفعل الرجال بحركة لا إرادية وجد نفسه يمدّ يده اليمنى نحو قضيبه تحت الرداء المزركش. شعر ببعض الحرارة تنبعث من هناك وطاب له هذا الشعور، فاستسلم له”.

يتحول الجزّار، الذي يحافظ على سمات الدكتاتور المجرم الدمويّ الذي يحكم من هم حوله بقبضة من حديد، في أجزاء كثيرة في هذه الرّواية إلى إنسان موغل في إنسانيّته، على هشاشتها وانفعالاتها وسطحيتها وتركيباتها المختلفة. هو قادر على الضّحك والبكاء والتعاطف مع الآخرين، إلى جانب قدرته على قتلهم والإطاحة بكلّ من يخالف قوانينه أو يهدّد كيانه. في الحوارات المتخيلة التي يكتبها حليحل برشاقة بين بونابرته والجزار، نكتشف جوانب أخرى في هذا الدكتاتور. فالجزّار يقيمُ حوارًا مع عدوّه، ويبدو الاثنان مرتاحَين متناغمَين في تناول مواضيع تتعلّق بالجنود والحصار وأشياء أخرى. ينفتحُ الجزّار  (أو أحمد كما تحلو تسميته في بعض مقاطع هذه الرواية) في بعض مشاهد هذه الرواية على طفولته وصباه وهربه من البوسنة، معترفًا بحبّه لزوجة أخيه أمام نابليون حيث يدور بينهما الحوار المتخيّل التالي: “هل يمكنني الرجوع إلى البوصنة والزواج من دارينكا؟ لا تضحك هكذا… سأقول لها إنني أحبها. لم أتوقف يوما عن حبها”…”ولهذا اغتصبتها يا أحمد. تغتصب زوجة أخيك؟” “لم أعتبره أخي يوما. كرهته وأكرهه” “إذا أنت لم تحبها لمجرد أنك تحبها، بل كنت تريد إذلال أخيك الذي تكرهه”.

في هذا المشهد، يختار حليحل أن يمرر هذه المعلومة على لسان الاثنين الأول يعترف والثاني يحاسب ويحلل، وهو اختيار موفّق، لأنّ الجزار في تركيبته ما كان من الممكن أن يعترف لأحد إلاّ لخياله بفعلته هذه.

في هذه الحكاية نجد تراكمات لفكرة الخيانة وارتباطها بالأغراب أو الأغيار. فالشخوص إمّا أنّها غريبة نازحة من بلاد أخرى، أو ترتدي قناعًا غير قناعها خوفًا من العقاب وغضب الجزار، أو أنّها يد خائنة تتربّص بالحاكم. تتأصل الغيرية في مفهوم الخيانة، لكنّ الكاتب مرّة أخرى يبني نمطًا مختلفًا في نظام العلاقات بين هؤلاء الأغيار، نمطًا يحاول أن يكشف عن صلاحيّة الغيريّة في فهم منظومة العنف البارزة في سلوكيّات هذه الشخوص: الجّزار البوشناقي المسيحيّ في أصله، بونابرت الفرنسي، فيليبو الفرنسي المنشقّ، فرحي اليهودي من أهل الذمّة، ابراهيم المسيحيّ المقنّع (مارون) (“لم يستطع الترجمان ابراهيم قمع ابتسامته حين فكر لبرهة أنه والجزار مسيحيان يتنكران للمسيح والصليب كي يصمدا ويعيشا في أرض الإسلام”)، عبد الهادي عامل المتكسّب من عمله في الخوزقة، والذي يُلاحق من قبل رجال الجزّار على خطأ في عمله فيصير عدوًا، أبو الموت الشخصيّة الانتهازيّة المنتفعة والذي يُقتَل على يد عبد الهادي فوق أجساد الفرنسيات. هذه الغيريّة (حيث كلّ ما هو خارج الجزّار هو غيريّ) تحيل إلى شرعنة الصّدام مع الآخر أو قتله أو ملاحقته، هي سمة ضروريّة في فهمِ الأدوار الموزّعة بدقّة وفهم طبيعة الخيانة التي تتكرّر على طول الرّواية. الغيريّة ضروريّة داخل هذا الخليط البشريّ لأنها تفرضُ التوتّر في وتفرض تعدّدية لا بدّ منها في فهم  طبيعة هذه الشخصيّات وعلاقاتها الصّداميّة تارةً والحميمية تارةً أخرى، فهي شخصيّات على قدر كبير من القوة، لكن إلى جانب قوّتها تتكشّف فيها سمات الضّعف والانهزاميّة وفي النهاية إمّا تُهزم أو تُقتل أو تُعدَم أو تموت بالمرض.

لعلّ شخصيّة القائد دي فيليبو مثيرة للاهتمام في نقطة الهوية والغيرية حيث: “كان يشعر في قرارة نفسه بأن أحمد باشا الجزار يشك فيه رغم كل شيء. إنه يعرف ما يدور في خلده: الخائن يظل خائنا، فلا هو محبوب لدى أهله الذين خانهم ولا هو محبوب لدى الذين يخون أهله من أجلهم. مثل خبز الذرة، مأكول مذموم”.

لقد حاول دي فيليبو أن يحظى برضا وإعجاب الجزار طيلة الوقت، لكن هذا التباعد بينهما ظلّ قائمًا حتى في موته (“لم يحب الجزار جنازة دي فيليبو بالمرة. فهو لم يعط أي أمر للخروج إليها ولم يرغب في أن تشيعه الآلاف. إنه فرنساوي وغريب وهو هنا كي يهزم زميله الذي يحقد عليه لا أكثر. فلماذا يخرج الآلاف لوداعه مع أنه لم يأمرهم بذلك؟”). يرى الجزّار كلّ من حوله بعين الآخر، تمامًا كما هو آخر في عيونهم، وهي نظرة ولّدت قلقًا مشروعًا تأرجح بين الحبّ والعداء داخل منظومة هذه العلاقة.

يكاد يكون الجزّار أكثر الشخصيّات إثارةً وتطوّرًا في هذه الرواية، إن لم يكن الشخصيّة المتطوّرة الوحيدة فيها. فالرواية تنتهي برحيل نابليون، وموت دي فيليبو ومقتل أبو الموت وخوزقة عبد الهادي عامل، ويختتم الراوي بمشهد مؤثر يبقى فيه فرحي اليهودي مع الجزار، فرحي “دونًا عن كل البشر، يعرف هوايته السرية الغريبة: فالجزار كان يتفاخر أمامه بأنه يعرف قص أشكال الحيوانات بالمص والورق، وكان يريه في لحظات الهدوء والصفا البنادق والأزهار والآيات القرآنية التي قصها بغاية الروعة”. يظهر الجزار كقائد حديديّ لتظهر خلال الرواية جوانب الإنسان المتعدّدة فيه: المتألّم والعاشق والغرائزيّ والقاتل والطّفل، والإنسان المسكون بروائح الذاكرة. رغم جبروته واستبداده تكشف الأحداث في بعض المشاهد عن رجل ما زال يحتفظ ببعض البراءة الغريزيّة كمشهد الإمساك بعبد الهادي عامل وإصدار قرار بخوزقته على يد بشير البستاني “ثم أجهش عبد الهادي عامل بالبكاء وهو قاعد فوق الدلو المنتن. عند الجهة الأخرى من حائط الغرفة حيث الدرج الضيق، كان الجزار يقف ملتصقا بالحائط، يسمع نشيج عبد الهادي ويبكي معه”. أو كمشهد النهاية الذي يقرر فيه الجزار الرحيل وهو يهذي بالشخوص التي قتلها “أنقذني يا فرحي! ما أريدهم ييجوا معي! أنا هارب منهم يا فرحي” “من مين يا حضرة الوالي؟ وينهم؟” “ما تشوفهم؟ ميّات! (…) ساعدني يا فرحي. أبغي أروح. دارينكا تستنّى يا فرحي”.

لم يبقَ شيء في رسم هذه النهاية سوى أنسنة هذه الشّخصيّة، وإنزالها من جمودها التاريخيّ إلى مرونتها الانسانيّة. الاختلاف في التقديم وفي قراءة المرحلة والدّمج بين ما هو مسموح وما هو ممنوع في النصّ السردي هو أكثر ما يميّز هذه الرواية، وهي بهذا  تتجاوز منطق التاريخ ونهجه الصارم، وتنشغل بتوثيق ما تمّ تهميشه، مستخلصةً عبرًا أخرى لا يقولها إلاّ الأدب- فن اقتحام المجهول.

(عن موقع “أكثر من حياة”)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *