ُتُعسًا للسياسة، مرحًى للفنّ

يثير فيلم “العرض الأخير” (أو “زيارة الفرقة الموسيقية”، بالعبرية)، مُجددًا، مسألة لا تزال تشغل السينما الإسرائيلية المحلية، والفلسطينية أيضًا، وهي ببساطة: لمن نصنع السينما؟ للجمهور المحلي أم للجمهور العالمي، طمعًا في بيع تذاكر في العالم، أم نصنع سينما تلبي رغبات المُموّلين (الأوروبيين في الغالبية الساحقة)؟ ولا تزال هذه المسألة حاضرة بقوة في السينما الإسرائيلية والفلسطينية لأنّ التمويل السينمائي يأتي في معظمه من الغرب، من إنتاجات مشتركة مع جهات وصناديق أوروبية، وبالأخصّ الحديث هنا مُتركّز في السينما الفلسطينية التي لا تملك أية مصادر تمويل فلسطينية، على عكس السينما الإسرائيلية التي تتمتع بدولة ومؤسسات وميزانية سنوية تتراوح بين 70-80 مليون شيكل، ومع ذلك فهذه ميزانية ضئيلة جدًا يتوجب أن تكفي لتمويل أفلام روائية وتوثيقية وتجريبية ولتمويل ودعم مراكز السينماتك والمهرجانات ومعاهد التدريس، وغيرها.

ومما يدفع إلى طرح هذه المقارنة أو المقاربة بين السينما الفلسطينية وتلك الإسرائيلية، في سياق هذا الفيلم الذي حاز جوائز السينما المحلية وجوائز أخرى دولية، وجرف وما زال الإعجاب في جميع أنحاء العالم، هو أنّ إسرائيليين وفلسطينيين عملوا على إعداده والمشاركة فيه، جنبًا إلى جنب، مع أنّ كلمة فلسطين لا تظهر في أسماء الدول المنتجة، إذ أنّ الفلسطينيين في الفيلم هم من الأقلية العربية الفلسطينية في البلاد، وبالتالي ظللنا مع جهة إنتاج إسرائيلية (وهذا يطرح مسألة لا يزال البعض يرى فيها إشكالية، أن يعمل فنانون فلسطينيون في السينما الإسرائيلية، ولكن لهذا باب آخر).

المسألة التي بدأتُ بها سأعود إليها: فيلم “العرض الأخير” هو فيلم مصنوع للغرب، أي لأوروبا، وبالتحديد وفق الذوق الفرنسي، من ناحية الكتابة والإخراج والتمثيل والتوليف والموسيقى. بعض هذه العناصر ناجحة فيه إلى حدّ كبير (الموسيقى، وبعض التمثيل، وبالأساس خليفة ناطور الممتاز) وبعضها جاء وفق المعيار (الشبلونة) التي لا زالت تُخضع لها جميع من يريد أن يصنع فيلما فنيا (أو “صغيرًا”، كما يُحبّ السينمائيون تسميته وهم يتمايلون فوق فنجان إسبرسو، كأنّ الفيلم الكبير ليس فيلمًا جيدًا). أهم مواصفات هذه المعايير: كُن بطيئًا. وبعد أن تكون بطيئًا يُفضل أن تُبطئ قليلا آخر، ثم بطّئ قبل المنتصف، وبعد المنتصف، ولا تُسارع في الحبكة، ولا تبنِ تشويقًا، وإياك إياك أن تجعل المشاهد يهتم بما سيجري وينتظر النهاية بشوق، ولا تكتب قصة مع بداية ووسط ونهاية ولا تبنِ شخصيات متكاملة، واجعل المشهد يدوم دهرًا، ولا تُسارع في الوتيرة في الفصل الأول والثالث من الفيلم، فعندها سيقولون عنك إنك “هوليوودي”، أي تجاري، أي غير فني، أي غير مثقف، أي غير عميق، أي غير فنان، أي أنك “لم تفاجئ”! هكذا، يكتسب فعل المفاجأة مفارقة مسلية: بدلا من أن يفاجئنا الكاتب والمخرج في الفيلم نفسه، في حبكته، في تطور قصته، يفاجئنا بمدى فنيته وضلوعه في البُطء وعدم المفاجأة. أي أنك مفاجئ في جرأتك على عدم المفاجأة. يعني زي غودار.

لا أريد أن أكون متعصبا ومتطرفا مثل ثلة “الفنانين” السينمائيين الذين يرفضون كل مبنى “هوليوودي” كلاسيكي للفيلم كقصة (مع أنّ هذا المبنى هو من وضع أرسطو، أعزائي، ولكن لا مجال للخوض في هذا الآن)، ولن أنفي هذا التوجه في العمل السينمائي كلية، ففيليني وتريفو أبدعا في مثل هذا التوجه، بينما أنتج غودار وغيره من الجيل الفرنسي، “الموجة الجديدة”، سينما مُملة، “فلسفية”، إدعائية وغير مثيرة، ما زال ضحاياها من السينمائيين الشباب يسقطون على جوانب الأفيشات، يومًا بعد يوم. هذا الفيلم وغيره كثير عُمل كي يلائم ذائقة الأوروبيين بالأساس، وهي ذائقة لا بأس بها، ولكنها ليست الذائقة التي يحبها ويطلبها أهل هذا المكان. ستقولون: هذه مقولة الفنان الفنية ولن يغيرها من أجل العرض والطلب. لا بأس، ولكنهم يغيرونها من أجل العرض والطلب، إنما في السوق الغربية وليس من أجل السوق المحلية. هذا هو الفارق برُمته!

ففيلم “العرض الأخير” أوغل في هذا التوجه، واختار مخرجه عيران كوليرين أن يصنع فيلمًا على هذا النسق، فيلمًا لا يستغل بداية ممتازة مثل ضياع فرقة شرطة الإسكندرية المصرية في بلدة في جنوب إسرائيل، كي يأخذنا في رحلة اجتماعية-سياسية-مؤلمة-مفرحة كما يتوقع كل من يجلس ليشاهد الفيلم. فكوليرين يعالج هذا الموضوع بقفازات حريرية، وهو يتجاهل السياسة الكامنة في كل لحظة من لحظات الفيلم، عنوةً ووقاحة، كي يقول لنا، ولنفسه بالأساس: لقد صنعت فيلما فيه عرب ويهود ولم يكن عن السياسة. هذا حقه طبعًا، ولكنه لي، كعربي في دولة إسرائيل وفي الشرق الأوسط، فيلم سخيف يجاور التفاهة في مشاهد ومقاطع معينة، وهو في مُجمله، رغم جمالية بعض عناصره، ورغم بعض اللقطات الجميلة التي تدخل في باب “الإنسانية”، لا يرقى بأيّ شكل من الأشكال ليكون فيلمًا جديرًا بالإعجاب، لأنه اختار ببساطة أن يتنازل عن صراع أساسي في الفيلم. ومع ذلك، يحتضن العالم هذا الفيلم، ولنفس السبب: فيلم عن عرب ويهود ولا يطلقون النار على بعضهم البعض! يا للفرح!

مرة أخرى: من حق المخرج والكاتب أن يفعلا ذلك، ولكن عندها، في وسط هذا التجاهل المريب وغير المفهوم، لا يُفهم في نهاية الفيلم لماذا اختار فرقة مصرية ولم يختَر فرقة تايلاندية مثلا. فتبديل قومية أعضاء الفرقة الموسيقية لن يؤثر للحظة على مجريات الفيلم وسيره وسيظل في نظر صانعيه ومُحبيه من المشاهدين “أمثولة (أليغوريّا) إنسانية عن الحب والبحث عنه” (طبعًا، مع تغيير حبيب شحادة حنا لنوعية الموسيقى من مصرية إلى تايلندية). لا بأس في ذلك، ولكن قرار التعامل مع فرقة مصرية هو قرار مصيري يجب احترامه من طرف القيّمين على الفيلم، ولا يمكن تجاهله، عمدًا وعن سابق إصرار، بدعوى أننا لا نريد إنجاز فيلم سياسي. لا بأس، لا تنجزوا فيلما سياسيًا، وافعلوا ذلك باختيار “أغيار” من قومية أخرى، ولكن لا يمكن فعل ذلك باختيار أكثر المواقف سياسية في العالم وإفراغها من السياسة التي فيها، فهذا عدم فهم أساسي للقصة التي تطرحها؛ هذا ليس هروبا من السياسة إلى “الإنساني” (وأنا لا أعرف ما الفرق بينهما صراحة)، بل أجندة سينمائية وسياسية لم تخرج إلى حيّز التنفيذ كما يجب.

“بدنا ناكل بدنا نعيش”

تذكّرتُ هذا الأسبوع الشعار أعلاه “بدنا ناكل بدنا نعيش/ أكلكن بكفيش”، الذي كنا نردده بحماسة في ساعات الظهر في المخيمات الكشفية الصيفية التي كنت أواظب على حضورها، عندما سمعتُ بإضراب كتاب السيناريو في أمريكا، الذي “اندلع” مطلع هذا الأسبوع. وتلخيص الدافع أنّ نقابة كُتاب السيناريو الأمريكيين والذين يعملون في أمريكا وقعوا في منتصف الثمانينات على عقد جماعي يمنح الكاتب (2) سنتات (يعني قرشين بالعربي) عن كل نسخة “دي في دي” تُباع من أفلام كتبوها للسينما الأمريكية. كما أنّ بث وبيع الأفلام والمسلسلات التلفزيونية عبر الإنترنت لم يكن في الوارد عندها، وقد خرج كُتاب السيناريو من هذا المولد من دون حمص، أيضًا.

والحقيقة أنّ المرء يحار في هذا الصدد، ما إذا كان عليه أن يتضامن مع كُتاب السيناريو في أمريكا أم لا؛ فمن جهة هم كخلق الله جميعًا، “عمال” يناضلون من أجل تحسين ظروف معيشتهم، ومن جهة أخرى: يا ليتنا نحصل على عُشر ما يحصلون، فيمكن للمرء أن يسخر من نضالهم بجرة قلم: نضال ترف برجوازي. فهذا نيك كاونتر، رئيس تحالف منتجي السينما والتلفزيون يقول إنّ الاستوديوهات اقترحت على الكُتاب أن يُجرى بحث تسويقي تُفحص فيه مسألة الأسواق الجديدة (الانترنت والدي في دي) ومن ثم يُصاغ عقد جديد، “ولكن الكُتاب غير معنيين بمثل هذا التوجه”، أضاف. وهذا باتريك فيرون، رئيس نقابة كُتاب السيناريو، يقول: “توجهنا الأساسي هو: إذا حصلوا على النقود (أي: المنتجون وأصحاب الاستوديوهات) فيجب أن نحصل نحن أيضًا”. واضح وبسيط. وسبب الحيرة واضح وبسيط: لكُتاب السيناريو في أمريكا نقابة قوية جدًا، يتقاضون مبالغ ممتازة لقاء المسلسلات والأفلام التي يكتبونها، ومن يعمل مع استوديو هوليوودي يبدأ بمفاوضتهم لقاء سيناريو لفيلم سينمائي “من نص مليون وطالع”. دولار بالطبع.

ومع ذلك، هنيئًا مريئًا، فنحن مع ثورات الكُتاب أينما كانت، حتى لو كانت مخملية ومُرفهة ولا تنبع عن جوع، بل عن مغص حفيف في أحد تلابيب الأمعاء الرفيعة.

(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 13 كانون الاول 2007)

 

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *