نجيب النجيب

“بروتوكولات حكماء ريش” هي إحدى المجموعات الشعرية للشاعر والمسرحي والممثل المصري الكبير نجيب سرور، وقد اقتنيت الكتاب من معرض الكتب في القاهرة، مع أنني كنت مطلعًا على شعر سرور وكتاباته من خلال الإنترنت. وقد صدق حدسي بأنّ دار “الشروق” المصرية الممتازة لن تصدر مجموعة سرور من دون قيمة مضافة، حيث أنّ المقدمة التي أنجزها الكاتب المصري عبده جبير، صديق سرور، هي مقدمة ممتازة تلقي الضوء على إبداع سرور وتوجهه في الحياة والإنتاج، كساخر وناقد لاذع، قلّ أمثاله في تاريخ العرب الحديث.

وقد توفي سرور بعد نكسة 67 بقليل، ولكنه لم يرحل من دون مشهد مسرحي هائل، لا أقاوم أبدًا إيراده هنا، بالكامل تقريبًا، على لسان جبير، كما ورد في المقدمة:

“كنتُ أجلس على نفس المقهى، وكان الوقت عصرًا، وجاء الشاعر أمل دنقل عرقان هائجًا مغتاظًا، جلس دون أدنى تحية على المقعد المقابل، وأخذ ينفخ الدخان بعنف، ويبتلعه بقوة إلى صدره، وخلتُ أنه لا بدّ وأنّ هناك شيئًا، فقلت:

– مالك؟ فيه إيه؟

قال بغضب:

– روح شوف نجيب بيهبب إيه في التحرير؟ (ميدان التحرير الشهير في وسط البلد)

(…) رأيت يحيى الطاهر عبدالله، كاتب القصة القصيرة، على الجانب الآخر من الرصيف المقابل للمقهى، يقف ليضخّ نصائحه في سمع شاب، يبدو أنه كان يعمل على تجنيده فيما كان غالب هلسا، الكاتب والمفكر الأردني الذي عاش في مصر قرابة ربع القرن، يقول عنهم “ميليشيا يحيى الطاهر عبدالله”، أسرعت في اتجاهه مهللا:

– يا يحيى، تعال نشوف نجيب بيعمل إيه في الميدان؟

كان يحيى منشغلا ببث أفكاره الثورية في عقل الشاب، فقال:

– بيكون بيعمل إيه يعني؟ دا بيمثل.

وبالفعل، هرولت حتى وصلت إلى الميدان: رأيت نجيب سرور يقوم بأداء عرض مسرحي كامل، مُمسكًا بيد ابنه الصغير الأشقر الجميل، فريد:

– ألاؤنا، ألا ترى، مين يشتري الورد مني؟

وتذكرت أنني حين رأيته، منذ ليال مضت، على خشبة وكالة الغوري يقوم بالتمثيل في مسرحية “أوكازيون” أحسست ساعتها بأن مساحة المسرح ضيقة على هذا الممثل العبقري، وهأنذا أراه وقد وجد الحل:

– التمثيل في أكبر ميادين القاهرة.

(…) كان الجمهور يعرف بالطبع أنّ هذا هو نجيب سرور، الممثل العبقري، الكاتب والشاعر، لذا فقد رأيتُ الدموع في عيون الناس وهم يتابعونه بشغف، وأذكر أنني سمعتُ أحدهم يقول:

– هذه هي آثار الهزيمة.”

بعد هزيمة 67 وقف نجيب سرور في ميدان التحرير وعرض ابنه للبيع، في وقفة مسرحية مدوية لخصت كل شيء. وهو الذي تنبأ قبل وفاته أنّ الصهاينة سيأتون ذات يوم للجلوس في مقهى “ريش”، وهو المقهى الذي كان يرتاده أهل الثقافة والفن، “الحقيقيون والأدعياء” على رأي جبير. لم يصدقه أحد، وقتها، ولكن نبوءته تحققت، وللأسف، في الزيارة الأخيرة إلى ميدان طلعت حرب، حيث قهوة “ريش”، كان المقهى مغلقًا، والكراسي مرفوعة، ورأينا مُسنا سمينا يجلس إلى جانب قنينة بيرة “الستيلا” ويستغرب من هؤلاء الوافدين عنوة، ويقول بنفور ما: “إحنا منرمم”.

ولا يحلو الختام طبعًا من دون بعض أبيات لنجيب سرور من قصيدته “إحباطات شعرية”، وهي تحت العنوان الفرعي “الإحباط الأول”:

لأنّ العصرَ مثل النعش..

لأني جثة في النعش..

لأنّ الناسَ.. كل الناس..

دمي من قش..

لأن..

لأن..

(المعنى في بطن الشاعر،

والشعر عدو خواء البطن،

جوعان في القرن العشرين،

والإنسان الجائع كلب!

كم في الجيب؟!

ماذا كنت أقول..

كنت أقول الشعر..

أشعر أني ميّت..

فإلى الفول بزيت!..)

 (نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 22 شباط 2008)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *