عينا دُشّه السّاحرتان

 فقدتُ لغتي.

بعد سنوات طويلة من القراءة والكتابة وتصفح المعاجم والإخلاص لـ “لسان العرب”، خِلاً وصديقًا، فقدتُ لغتي؛ فقدتُ عشرات آلاف المرادفات والمتضادات المُصرّفة والممنوعة من الصرف، لأجد نفسي طيلة الأسبوعين الأخيرين عالقًا في كلمات معدودات لا تتغير: دش الدش الدش، حبيبتي، حبي، ديناصورة، عزا عزا عزا، عشا عشا عشا، عسا عسا عسا، يختي، خيتا، ألبي، شو هالعيون؟ إنتي قوليلي شو هالعيون وبحلّ عنك!! دشدوشة، منتوشة، فركوشة، زمبيعة، فرقيعه، برقوقة، طبيلة، زميرة، يختي، ملكة جمال ساحة عرفة!، دشة دشة دشدوشة؛ وهكذا.

أروح وأجيء وسط هذه المعجزة وأنا مقتنع بأنّها حدثت لي وحدي أنا، وكأنّ البشرية لم تحقق هذه المعجزة منذ أول قرد استنسخ نفسه آدميًا، وها نحن الآن، في عكا الأبية، أتأمل عيني شذا الساحرتيْن، وأغني لها في الرابعة والنصف صباحًا: يمّا الشلبية، عيونها لوزية…

فقدتُ لغتي، ولكنني اكتشفتُ لغتها.

*

تقول دُشه (والحكي للجميع): “وأنا أنا، هل أنتَ أنتَ؟” أهمس لها: هذا شاعرنا فهل جاءك في المنام؟ أحكي لها عن شتاء ريتا الطويل والقصيدة التي لا تنتهي، ولكنها تطلب مني أن أهمس في أذنها: “بكوب الشراب المرصع باللازورد، انتظرها”. أهمس، ثم أغني بصوتي الفجريّ الصدئ المتعب: “طلعت يا محلا نورها…” وأنا أرجو في قرارة نفسي أن تنام- ولكنها لا تنام. دُشه تحرس هدوء المكان.

تمتهن دُشه السّهر على أعتاب الفجر، فتنام النهار وتقيم الليل، رضاعة وبكاءً وتحفيضًا. ثم تقرأ ما تيسر من سورة “وَعْ وَعْ”، وتطلب بعينين متيقظتين المزيدَ من الدفء فتستلقي على صدري وأعُدّ لها جميع الشعرات الزائدة في حاجبيها وتحت أنفها، وأستمع إلى لغتها الطافحة بالشهيق والزفير، فتخجل لغتي، فأغني: “يللا تنام، يللا تنام”، سارقًا المعنى من رغبتها في الانكماش ثانية في رحم أمها.

أمددها قربي في السرير وأرقبها تتأمل العتمة. هل تراني؟ هل ترى هاتان العينان ما يطبخ لنا الوقت من زاد اخضرارها؟

المعجزة حاضرة في: تفتح عينيها يومًا بعد يوم/ صوت بكائها الذي يمزق الأحشاء/ صوت صمتها الذي يمزق الأحشاء/ ابتسامتها اللا إرادية وهي ترضع/ قبعتها الحمقاء فوق رأسها المتشكّلة (الحمقاء)/ الوبر الخفيف النابت على أنحاءٍ في جسدها/ نظرة أمّها لها/ اقتراب النعاس من حركة يدها اليسرى/ سرّتها/ هجومها على الأصبع التي تفحص جوعها/ عنادها المبكّر (والشديد)/ “حصانها” المثابر/ انقطاع النفس وهي تستحمّ/ أغفاؤها على صدري/ ترنيمة الشوق للحياة في فجرها/ الوسن في نهاية الرضاعة/ تأملها السقف بلا هوادة/ بُرازها/ قيؤها/ حبّ جديْها وجدتيْها الغريب (قائمة غير نهائية).

*

أتحسّر على سيجارة إلا أنّ التدخين في البيت ممنوع، والفجر لم يطلق سراح الشمس بعد، فأدخن في الشرفة الباردة. صباح بارد جديد. الغيوم تتظاهر بتجاهلي، رغم أنني أعرف أنها تتحرجم فوق البيت كي تطلّ على إيقاع حبها الخفيف. أدخل لأسمع تنفسها، فنحن “مُسَرسبان” من قصة التنفس، ثم أعود، ثم أقلق بعد ربع ساعة، ثم أقوم، ثم أقلق ثانية. تنام على بطنها ويد سريعة تطبطب على ظهرها تفضح تنفسها البطيء-السريع. نبضات قلبها سريعة، مثل نبضاتي، ولكنّ نبضاتها ملأى بالوعود ونبضاتي ملأى بالأخماس والأسداس.

من مرة إلى أخرى، ليلَ نهارَ، تطلق تأففًا غامضًا، مكبوتًا، نسميه “زَعْبَرة”. الأم تقول مغصًا أو توسعًا في المعدة، وأنا مقتنع بأنها تنادي علينا، قتلا للوَحدة. أسبوعان وجسدها لا يحتمل أية شاعرية أو بلاغة، ولكنني أرى ولادة المستقبل على فوطة أكلها المتسخة دائمًا. أرى قصيدة حياتي.

صارت لي ابنة. أقرأ من قصيدة غسان زقطان: “ليس لي ابنة/ كي تعيد إلى القلب/ ما كان يسقط من عشرة الناس/ في طرق لا يراها الرواة…”. دُشه: هل ستحبين الشعر؟ لا، دعكِ من حبّ القصائد المكتوبة. كوني شاعرة!

*

في التاسعة وخمس وخمسين دقيقة صباحًا، في الثامن والعشرين من تشرين الثاني للعام 2009، استيقظ البرقوق في جسدي. كنتُ أظنه مات وشبعَ، إلا أنّ الحياة قالت كلمتها. حيوان منوي واحد وبويضة واحدة كافيان ليستيقظ آخَرُكَ على آخر جديد. تعدّ على أصابع يديك ما تغير: دفءٌ في القلب، خدرٌ في الجسد، لهاثٌ في غدد البكاء، سعارُ في غدد الضحك، وَجيفُ في أطراف الفرح.

أتأمّل صورها (للمرة الألف) وأبحث عن ملامح المرأة التي ستكونها. أشتعل غضبًا حين أتيقن من أنّ رجلا واحدًا على الأقل سيكسر قلبها يومًا (سأكسر رأسه!)، ومن أنّ خيبة واحدة على الأقلّ ستسحق تفاؤلها (سأسحق هذه الخيبة!) ومن أنّ فقدانًا قاهرًا (واحدًا على الأقل) سيغيّر حياتها يومًا (سنعيش من أجلها إلى الأبد!).

ثم أشتعل فرحًا حين أرى أول ضفيرة ناصعة السواد، أول فستان صيفي رفراف، أول فرحة لها بأوّل دراجة، أول يوم في المدرسة، أول 100 في امتحان الخط (خطها جميل، لا محالة!) وأول رسوب في الكيمياء (دعكِ من الكيمياء فالبحر أجمل)، أول “طفشة” مع صديقاتها على كورنيش بحر عكا (وقلق أمها!)، أول دفتر يوميات سترسم عليه قلبًا متناسقًا بالأحمر، أول رفة قلب لأحد أبناء صفها (سأكسر رأسه!)، أول تفتح على هموم فلسطين، أول مظاهرة، أول شتيمة علنية أمام والديْها (جيل خرا!)، أول سيجارة في الحمام، أول حفلة راقصة تمتدّ حتى منتصف الليل (وقلق أمها!)، أول خروج من البيت، أول دمعة في أول مهاتفة وهي خارج البيت، أول سكرة معها في بار مدينتها الجديدة (جين وتونك)، أول السّعي وراء الحياة، أول حبّ يُوجع الجّسد (سأكسر رأسه!).

*

فقدتُ لغتي.

صرتُ ناطقًا باسم عينيّ دُشه. ثم اتسعت لغتي…

(11 كانون الأول 2009، السادسة إلا ربع صباحًا)

(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 11 كانون الأول 2009)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *