عودة عنات

لا يذكر الكثير من فترة دراسته الجامعية في جامعة حيفا. الأشياء القليلة التي علقت في ذهنه تمُت بصلة لقسم الفنون وللفنانين الذين أحبّ أعمالهم بشكل خاص (هوكني، شيليه والفترة الزرقاء عند بيكاسو). وهو يكاد لا يذكر شيئًا من موضوع دراسته الثاني في الجامعة: علم الاجتماع. كل النظريات والبحوث التي تعالج التصرفات الانسانية والبيئية تبخّرت من رأسه وتنحّت جانبًا لصالح الكمّ الهائل من الأعمال الفنية التي كان عليه أن يتذكرها أثناء دراسته، للنجاح في الامتحانات. القسم الأكبر ما زال عالقا في ذهنه لليوم وهذا ما ساعده كثيرًا في القبول للعمل في متحف الفن الآنيّ في حيفا، بعد أن ترك انطباعًا لا مثيل له على مديرة المتحف التي أجرت معه اللقاء. العلاقة الحسنة مع المديرة بعد ذلك أدّت إلى تعرفه بابنتها والدخول معها إلى السّرير بعد أقل من يوميْن. وقد رفعت العلاقة الطازجة مع ابنة المديرة من أسهمه في العمل وعُيّن بعد أقلّ من شهر مساعدًا شخصيًا للمديرة ومسؤولاً مباشرًا عن ترتيب المعارض في المتحف. ولأنه محظوظ منذ الولادة فإنّ تركه لابنة المديرة بعد شهر تزامن مع ترك المديرة للعمل في المتحف وتعيين مديرة جديدة حافظت على منصبه. فيكون نجا بذلك من انتقام بشع مؤكد. فهو يعلم تمامًا أنّ المديرة لم تكن لتصدّق بأيّ شكل من الأشكال وبأيّ حالٍ من الأحوال أنّ سمير لم يستغل علاقته بابنتها لتقدّمه في العمل، وأنه ليس إلا نذلاً وضيعًا- وربما عربيًا قذرًا!

كانت عنات السبب في تركه لابنة المديرة بفظاظة ووقاحة استهجنهما هو من نفسه، بعد ذلك. عنات هي التي غيرت حياته وجعلت فترة التعليم الجامعي من أحلى فترات حياته- للآن طبعًا.

كانت الساعة العاشرة صباحًا، قاعة الكافيتيريا المكتظة بالطلبة والمليئة بسحب دخان السجائر تطفح بالحرارة وترزح تحت طائلة العرق اللزج الملازم لرطوبة حيفا. عليه إذا أراد اللحاق بالدرس قبل بدايته أن يتحرّك الآن. “مدخل إلى علم الاجتماع”. مجرد النظر إلى الكتاب المقرر للامتحان يثير الهول والنعاس في آنٍ. كان مستغرقًا في تلك اللحظات الحاسمة الفاصلة بين حالتين اثنتين؛ الأولى، القيام فورًا والإسراع نحو قاعة الصفّ الكبيرة التي ستكون غاصّة لا شكّ بالطلبة النشيطين الذين أتوْا قبل طلوع الشّمس إلى حجز أماكن متقدمة أمام المعلمة. الحالة الثانية، الاسترخاء في الكرسيّ حتى النهاية بعد اتخاذ القرار المصيري بشراء كوب ثانٍ كبير من القهوة السوداء الحبيبة وقراءة الجريدة عن بكرة أبيها. التجربة علمته أنّ اتخاذ القرار الأول سيدفعه إلى حضور كل الدروس المقرّرة لذلك اليوم، لأنه صار هنا ومن الأفضل أن يتمم النهار ما دام قد ولى نصفه. القرار الثاني من الجهة الأخرى، سيجعل العودة إلى الدروس بعد الاستراحة الطويلة والممتعة، التي ستجمع لا ريب العديد من أمثاله -وهم كُثر- سيجعلها تتفاوت بين الصعوبة البالغة وبين الاستحالة. الاستحالة تغلب عادة، كما علمته التجربة. باختصار، إمّا أن يقوم ليتعلم، وإما أن يبقى لشرب القهوة والثرثرة، وربما النميمة.

فلنسجّل الوقائع جيدًا. من بعيد أطلت عايدة، زميلته في قسم الفنون الجميلة سنة ثانية، وإحدى صديقاته اللواتي يستلطفهنّ ويستلذّ في الحديث معهنّ. كانت ترتدي كعادتها بلوزة حمراء ضيقة تبرز بجرأة وإقدام كِبر ثدييْها وصِغر خصرها. كان البنطال ضيقًا كالعادة، وأسودَ كالعادة. مع عايدة كانت فتاة يراها للمرة الأولى وكان هذا كافيا. لن ننغمس الآن في شاعرية مبتذلة وحب مدمر من أول نظرة- فلم يكن هذا ما حصل في ذلك الصباح. عنات من نوع الفتيات الذي يثير مع الإعجاب نوعًا من النفور أو التهيب غير المفهوم من فكرة التقرب إليها. ربما تكون شخصيتها القوية والواعية هي ما أخاف سمير للوهلة الأولى. فهو كغيره من معظم الرجال يحب الفتاة أضعف منه قليلا، أقصر منه قليلا وأغنى منه قليلا. كانت عنات ترتدي فستانًا قصيرًا من قطعة واحدة، تكسوه أزهار خضراء تعكّر صفو هدوئها من مرة لأخرى بقع تجريدية من الأحمر والأرجوانيّ الفاقع والتي تضفي على الفستان روحَ مرح خفية لا يحسّ بها غير المرحين. ربما (بل ومن المؤكّد) أنّ هذا ما حمل سمير على الابتسام ملء شفتيه بعد قيامه ومصافحة عنات. إنتظرت عايدة قليلا ريثما ينتهي سمير من ابتسامته ومصافحته وسحب كرسيٍ من جانبه لعنات.

“أراكَ لا تصافحني أولاً وأنا الصديقة الحميمة.”

“عايدة العزيزة”، صافحها بحرارة تحولت إلى مزاح ثم إلى ضحك.

جلستا.

“سمير، هذه عنات، عنات هذا سمير.”

منذ الآن انتقل الحديث إلى العبرية.

“سمير طالب سنة ثانية في الفنون الجميلة وعلم الاجتماع. عنات تدرس علم النفس واللغة الإنجليزية.”

“أهلا وسهلا”، قال سمير (أهلا وسهلا تحولت منذ زمن في هذه الدولة إلى عبرية دارجة كغيرها الكثير من المصطلحات العربية. لذا فإنّ “أهلا وسهلا” التي أطلقها لم تكن دعابة أو اختبارًا في العربية، بل كانت الكلمتان استمرارًا طبيعيًا للمحادثة بالعبرية. ما لم يعرفه سمير عندها أنّ عنات كانت قد تعلمت اللغة العربية في الثانوية وبعدها في دروس اللغات الأجنبية في الجامعة وهي تفهم معظم ما تسمعه باللغة العربية وتتكلم القليل أيضًا).

“شكرًا”، أجابت بالعربية.

“أرى أنّ لك تأثيرًا على صديقاتك”، توجه إلى عايدة، “ها هي عنات بدأت بتكلم العربية”.

“ما لا تعرفه هو أنّ عنات تعرف العربية منذ الثانوية.”

“ها، مثير للاهتمام.”

“لم تأتِ إلى الدرس البارحة.”

“لقد انشغلت في العمل. لدينا معرض جديد والفنان عنيد كالبغل. في البداية أصرّ على اختيار اللوحات التي أرادها فقط وعارض أيّ تدخل منا. حاولنا اقناعه بأنّ هذا مبالغ به بعض الشيء وأنّ المتبع عادة أن نختار أعمال المعرض سوية. بعد فشلنا الذريع دخلنا معه في معركة جديدة حول ترتيب اللوحات في قاعة العرض. بقينا حتى الحادية عشرة بالأمس نعلق وننزل اللوحات.

“هكذا هم الفنانون”- قالت عايدة غامزة.

“سننتظر معرضكِ الأول وسنرى.”

“عيش يا كديش”، قالت بالعربية.

لم تفهم عنات المثل. فرغم معرفتها العربية الا أنها لم تصطدم يوما بالكديش.

“دعيني أفسّر لك ما قالت”، انبرى سمير متحمسًا، “الكديش هو الحمار الصغير. و”عيش يا كديش” هو مثل عاميّ شائع شطره الثاني هو: “تا يطلع الحشيش”. أي أنه على الحمار الانتظار والصبر على الجوع ريثما ينبت العشب ليأكل. والعزيزة عايدة قصدت القول إنّ علينا الانتظار طويلا ريثما نشاهد معرضها الأول.

“أشكرك على الدرس المجانيّ.”

“على الرحب والسّعة، هذا يسّرني جدًا.”

الفاصل اللغوي هذا أدخل على الجوّ قليلا من الارتياح عند جميع الأطراف وبدت عنات الآن بالنسبة لسمير شخصًا مثيرًا جدًا وفتاة يلذّ التعرف إليها أكثر. اختفت الريبة الأولية وأصبح من الصعب جدًا على عايدة الدخول في الحديث بينهما. حتى إنها قامت بعد ربع ساعة وودعتهما وتوجهت إلى المكتبة. الساعتان اللتان مرّتا فتنتا سمير وأنستاه كلّ ما ومن حوله. عنات هي ما يهمه الآن وعنات هي ما سيشغله طويلا منذ هذه اللحظة. لم يكن هذا قرارًا بالمفهوم الواضح. مجرد حدس خفيّ ينتاب المرء أحيانًا. حدس يجعلك على أتم قدر من المعرفة والتأكد من أنّ الفتاة التي تجلس قبالتك هي هي التي انتظرتها.

“المهم، أنّ الضابطة بعد أن عرضت عليّ التجند لسلاح الاستخبارات بسبب اتقاني أو على الاقل معرفتي باللغة العربية، وبعد أن رفضتُ ذلك قطعيًا حوّلتني إلى المسؤول عنها. كان المسؤول عنها ضابطا شابا في بداية الثلاثينات من عمره، أشقر، طويلا وممتلئ الجسم. “تفضلي بالجلوس”، قال في غاية اللطافة. “لقد فهمتُ من ميريام أنك تعارضين الانضمام إلى سلاح الاستخبارات. أنت تعلمين أنه بامكاننا إجبارك على الانضمام، إذا أردنا”. “وأنت تعلم أنه بامكاني الحصول على عفو الآن لأنني فتاة. كلّ ما أطلبه هو أن أخدم في الوحدة التي أريدها، أو أيّ شيء آخر غير سلاح الاستخبارات”. “ولماذا؟”… “هكذا، لا أحبّ سلاح الاستخبارات”. “ولكنك تعلمين بالضبط أنّ سلاح الاستخبارات هو إحدى عيوننا على العدو”. “أعرف وهذا بالضبط ما أكرهه في الأمر”.

كانت عنات تتحدث إلى سمير وهي في كامل الاندفاع. لقد نسيت بسرعة أنها تقصّ على عربيٍّ عرفته منذ أقل من ساعتيْن تفاصيل محادثة مع ضابط كبير مسؤول عن سلاح الاستخبارات. ربما لم يكن في المحادثة ما يثير الريبة من الناحية الامنية، ولكن مجرد اندفاعها ورغبتها في الحديث معه عن ذلك أعطاه شعورًا بالتميز.

“المهم أنه في النهاية لم يرضخ وحولني إلى لجنة مؤلفة من خمسة ضباط قررتْ، بعد لقاء قصير اقتصر على أسئلة عن تفاصيل شخصية مسجلة أمامهم، تعييني في سلاح الاستخبارات وإلا فالسجن. كنت أكره سلاح الاستخبارات ولكنني كنت أكره السجن أيضا، فانضممتُ.”

“ولماذا تكرهين سلاح المخابرات؟”

“لأنهم يضمون إليه كل مجند جديد تعلم العربية في الثانوية ليترجم لهم الجرائد العربية من العالم العربي وليتابع الأخبار والتحاليل المتلفزة عند العدو. هم لا يفهمون أبدًا أنّ هناك من تعلم العربية لأنها يحبها أو يشعر بأنها ضرورية جدًا لفهم الآخر والتقرب اليه. كان هذا ما أردته ولكن كان من الصعب عليهم فهم ذلك.”

“وكيف كانت فترة الخدمة؟”

“عملتُ ما بوسعي لتقصيرها. تحرّرتُ بعد سنتيْن وتسجلت للجامعة فورًا. ولكنهم لم يتركوني وشأني.”

“ماذا تقصدين؟”

“تلقيت قبل شهر دعوة للمثول في شرطة حيفا في قسم التحقيقات. ذهبت. استقبلني هناك ضابط تحقيقات. الحقيقة أنه كان لطيفا جدًا وأفهمني أنني هنا في زيارة ودّية ليس إلا، وأنه بمقدوري المغادرة متى شئت. عرض عليّ العمل كعميلة سرية للشرطة لمعرفتي باللغة العربية. “تقصد الشاباك”، قلت له. “لنفترض ذلك”. طلبتُ المغادرة فغادرت. لم أسمع منهم بعد ذلك.

“كما في القصص البوليسية.”

“نعم.”

بعد فترة صمت:

“ها أنا قد رويتُ لك قصة حياتي في أول لقاء. ماذا ستروي لي؟”

“سأروي لك القليل، ولكن ليس هنا.”

“أين؟”

“عندي في الشقة. سأعدّ لك أشهى “ستيك” تناولته وستتناولينه في حياتك.”

لماذا عنات الآن؟.. لأنه في صباح يوم الأحد، في اليوم الأول له في العمل بعد الإجازة، دخل المتحف سعيدًا وألقى التحية بحرارة على كلّ من صادفه. أحسّ للحظة بأنّ هذا المبنى الكبير المليء باللوحات الصامتة والكئيبة عادةً ليس مكانًا بغيضًا كما كان يحلو له التفكير عنه طيلة السنوات الخمس السابقة. الفترة التي قضاها بعيدًا أثارت فيه الشوق لمديرته اللطيفة ولزملائه الذين يحترمونه ويحبونه (ويرهبونه بعض الشيء) وللحارس الأزلي الذي يملأ الفضاء الواسع في القاعات الكبرى بين الفينة والاخرى بهواء رئتيه الخارج من بين أسنانه: هششش…هشششش…

لماذا عنات الآن؟.. لأنه عندما اقترب من مكتبه أخبرته زميلته في تنظيم المعارض (طالي) بأنّ هناك ضيفة في انتظاره في مكتبه (“وهي جميلة جدًا”). لماذا عنات الآن؟.. لأنه عندما فتح باب الغرفة ورأى أول ما رأى ذلك العنق الرائع المتمم لظهر منتصب يغطيه فستان صوفي خفيف أحمر؛ لأنه عندما لمح ما تيسّر من طرف الأنف الرائع لصاحبة الشّعر الذهبيّ الجالسة في الكرسيّ المقابل لمكتبه، لم يستطع إغلاق الباب أو الحفاظ على محفظته الجلدية البنية بيده فوقعت أرضًا وتبعثر ما فيها (الكثير من الأوراق، كتابان عن فنان إسرائيليّ مخضرم يخطط لاستضافة أعماله في معرض كبير، عدد من الدعوات لمعرضه المنصرم، قطعتان من الشوكولاطة)؛ لأنه لم يكن بحاجة إلى التفاتتها ليعلم أنّ عنات قد عادت وأنه هالك لا محالة.

(إلى صفحة الرواية)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *