شماس – شماس: “بْعرض إمي” إشي فلـِع!

 من الصعب تسمية العرض الذي يقدّمه الفنان حنا شماس في الأيام الأخيرة “ستاند أب” بالمعنى الكامل والمتداول للكلمة- ولكنه عرض “جامد”، إذا سمح لي شماس بتبني توجّهه الخطابيّ في العرض. فشماس لا يقلد إيدي ميرفي (مثلا) في عروضه الستاند أبية، من ناحية اللجوء إلى “سليبستيك” كـ “مُكبّر صوت وحركة” للمضامين التي يسردها، بل تراه في معظم العرض يلجأ إلى حميمية ما مع جسده، مع صوته، مع وقفته على المسرح، على عكس المتوقع من ممثل يقف على الخشبة وحده أمام قرابة 350 شخصًا وعليه أن “يعمل دبّ وسعدان” كي لا يملّ الجمهور الآتي للضحك بالأساس.

كان أطزج عرض لـ “بْعرض إمي” الذي يقدّمه شماس كعرض وحيد (one man show) أمس الأربعاء، 23 حزيران، في القاعة الكبرى في مسرح “الميدان” في حيفا، وكانت القاعة ممتلئة- إذا كان هذا المقياس يهمّ هواة العدّ. إنه العرض الثالث في سلسلة العروض وهو الأول الذي أشاهده، وبشهادة من رأى العرضيْن السابقيْن (أو أحدهما) فإنّ العرض الأخير كان قفزة واضحة، على عكس البدايات. وبالفعل: حنا شماس رائع!

عندما يدخل شماس إلى المنصة على خلفية شانسون فرنسي تتبادر إلى ذهنك فورًا شخصية “مستر بين” التي تشبه شماس شكلا ومَسلكيًا. عندها توجّستُ. فشماس الذي بدأ الرقص على ألحان هذه الأغنية بدا أنه سيرتكن إلى السّهولة الفورية الكامنة في شخصيته الكوميدية وسيتأتئ وينسى النصّ وسيستنفد ويستنزف جميع الوقفات والصّفنات والحديث عن اللخات، وهي أمور قدّمها شماس في مسيرته الفنية حتى هذا العرض. لكنّ شماس يُدهشك في المشوار الذي قطعه من وقت “شماس-نحاس” (اللذيْن أحببناهما- في البدايات بالأساس) وحتى هذا العرض المتفرّد، حتى تخاله اختمر طوال سنواته الأربعين (تقريبًا) كي يقف ويحكي القصّة من أولها: من آدم وحواء وحتى إعلانه البطولي الفتاك: “أنا مش زلمه”!

أنت ترى حنا شماس جديدًا، ساطعًا، لا يخجل من تعثره اللفظي أحيانًا أو عفويته الجسدية في وقفته على المسرح؛ يتحدّث بصدق كبير، بتفاصيل مُخجلة أحيانًا عنه، بغضّ النظر عمّا إذا كانت أوتوبيوغرافية حقًا أو لا- ما يهمّ أنها تُروى أمام جمهور النساء والرجال على أنها حياته الشخصية. إنه انتحاريّ فدائيّ لا تدري كيف خرج من مسيرة شماس التي تعثرت بعض الشيء مؤخرًا، وربما لهذا السبب وضع شماس بيضاته (بجميع ما تحمله الكلمة من معانٍ) في سلة هذا العرض- وعليه وعلى أعدائه.

منذ زمان لم أرَ أو أقرأ أو أسمع مثل المونولوج الطويل الذي يتلوه شماس على المنصّة، ذابحًا فيه كلّ التابوهات والبقرات الاجتماعية: العادة السرية (عند الشباب والصبايا على حدّ سواء!)، السكس، النفاق، التلون، العادة الشهرية، مجلات السكس، مواقع الانترنت، الدقائق الأربع التي تستغرقه كي “يُبعبع”. حتى في قاموس المصطلحات والكلمات ذبح بقرة أو اثنتين، مثل “على زبي”، “أخو منيوكة”، “تعريصة”، “كس أخت”، الخ من درر اللغة العربية الجميلة التي علمونا أنها “قذرة” و”مهينة” و”عيب”، مع أنها من الركائز الأساسية في تطوير شخصية كلّ عربي فخور. ولا ينسى شماس النفاق السياسيّ والنكبة (ما قبلها وما بعدها) والحالة السوريالية التي يحياها العربي في ديارنا.

يقف شماس أمام جمهوره ويقدم “ستاند أب وجودي” إذا أردتم؛ ستاند أب لا يخجل بالتراجيديا التي يتحدث عنها ولا يتوانى عن عيش لحظات صدق محزنة ودرامية في منتصف الضّحك (طالت أكثر من اللازم في موقع أو اثنين). إنها الكوميديا العنيفة، مسرح القسوة، الفن الملتزم في تجليه، رغم سخرية شماس نفسه من الفن الملتزم في العرض نفسه. شماس ملتزم بهمومه، بهواجسه، بشخصه، بعائلته، ببلده؛ هل هناك ما يمكن الإلتزام به أكثر من هذا؟ وإذا كان الشاعر الأمريكي المخضرم تشارلز بوكوفسكي قال “الكتابة الحذرة هي كتابة ميتة”، فإنّ شماس حيٌ، ممتلئ حياةً.

كما أنّ الجمهور أبدى نضجًا في التفاعل مع “بذاءات” و”سفالات” حنا، ولم ينسَ أن يصغي بتمعّن أيضًا وهو يضحك، فكان التصفيق يتلو نقدًا جارحًا يقوله شماس- وهذه شهادة تُذكر، رغم التساؤل الذي تساءلناه أنا وصديق في نهاية العرض: هل يمكن عرض هذا الستاند أب في مجد الكروم أو الناصرة أو إم الفحم، أم أنه سيُستساغ فقط لدى جمهور حيفا؟

حنا شماس منعش، موجع، مضحك، مثير للتفكير. من يبحث عن إضحاك سهل، سطحي، تنكيتي، عليه البحث عن عرض آخر. أنا سأضحك وسأُصْدَم ثانية مع شماس، أنّى سنحت لي الفرصة.

(نُشرت المقالة يوم الجمعة، 25 حزيران، في جريدة “أخبار المدينة”)

(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 24 حزيران 2010)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *