سمير يتحدّث إلى طالي

ليس من عادته التأخر عن العمل بهذا القدر. العاشرة. من حسن حظه أنّ المديرة مشغولة بحربها الضروس مع وزير المعارف والتربية الجديد الذي يُصرّ على تقليص الميزانية المخصصة للمتاحف، وتخصيص ميزانيات أكبر لفئات لم تُولَ الاهتمام اللائق في عهد الحكومة السابقة. الحكومة السابقة هي حكومة حزب “العمل” والأحزاب الصهيونية اليسارية. الفئات التي لم تُولَ الاهتمام اللائق هي المتدينون اليهود. إذا عرفنا أنّ الوزير متدين بنفسه ومن حزب دينيّ-قوميّ بطل العجب. بالنسبة له، فإنّ معركة مديرته خاسرة وعليهم التفكير أكثر في كيفية التدبر بميزانية أقلّ. إلى أن تعود الحكومة السّابقة على الأقل. لم يكن انهزاميًا كما وصفته المديرة في جدالهما الأخير ولكنه كان واقعيًا: “علينا أن نسلّم بما يجري في هذه الدولة. اليمين والمتدينون فازوا بالانتخابات وسيفعلون ما يشاؤون حتى الانتخابات القادمة. هكذا هي الحياة. الحكومة السابقة التي نرثيها الآن فعلت كذلك هي الأخرى. نحن في معركة شديدة ولكنها هادئة. الذي يتحكم بالميزانيات يُسخرها لأنصاره. قد يكون بيبي فظًا ومكشوفًا في هذا الأمر ولكنه لم يخترع شيئًا ولم يجدد شيئًا. المشكلة الآن ببساطة أنّ الميزانيات في أيديهم وعلينا الانتظار ريثما تعود إلى أصدقائك.”

“أنت تبالغ. ليس الأمر هكذا بالمرة. نحن نعيش في دولة دمقراطية وخاضعة للرقابة والقانون. ليس باستطاعة أحد توزيع أموال الدولة كما يحلو له. توجد أولويات ونظم عمل متعارف عليها.”

“هذا على الورق. في الواقع، الأمر يختلف جدًا. نحن نحسّ بذلك يوميًا على جلودنا.”

“لذلك علينا عدم السكوت على الوضع. عليّ بالاستمرار بالضغط على الوزير في هذا الأمر.”

“أنا من رأيي أن تركّزي اهتمامك بأمور عينيّة مُلحّة أكثر.”

“هكذا أنتم، لا تعرفون سوى التنازل.”

“من نحن؟”

“أنتم العرب.”

“ربما كنتِ محقة في هذا الأمر. ولكن حتى أنت التي تبدين استياءك من ذلك لأول وهلة، هل كنت ستعيشين في راحة لو أننا لم نتنازل عن شيء؟”

إنها واحدة من المرات القليلة التي تحدث فيها مع المديرة بشكل مباشر عن العرب. لم يطرقا هذا الموضوع إلا عند الضرورة كحدوث عملية تفجيرية أو قتل مستوطن أو قتل فلسطينيين على يد مستوطنين. لم يصلا إلى نتيجة في كل المرات القليلة.

“أهلا سمير.”

“أهلا طالي. كيف الحال؟.. هل من جديد؟”

“جديد؟.. كل الأمور الجديدة تنتظر مجيئك إلى العمل لتحدث. حتى إنّ بعضها انصرف غاضبًا بسبب التأخير.

“كفى طالي، إصنعي لي معروفًا، بالكاد نمتُ ساعتيْن ليلة أمس.”

“طبعًا، بعد زيارة الأمس…”

“أرجوك، ليس الأمر كما تظنين.”

“وماذا أظن؟”

كان قد انتهى من إعداد قهوته واتجه نحو غرفته. تبعته.

“عنات ستتزوج.”

خرجت الجملة من دون نبرة خاصة. “عنات ستتزوج”. ببساطة، من دون تعقيدات زائدة ومن دون مشاعر. عنوان لخبر صغير في الجريدة. جلست طالي. أصبحت حذرة أكثر وتنازلت عن اللهجة المشاكسة.

“كيف حصل ذلك؟.. أعني لماذا أتت إليك؟.. هل تعرفه؟”

“حصل ذلك كما يحصل كل الوقت، أتت إليّ لأنها شعرت بضرورة الحديث معي قبل أن تتزوج وأنا لا أعرفه.”

“يؤسفني سماع ذلك.”

قام وتمطى أمام شُباكه المُطلّ على بيوت “الواد” العتيقة. طال صمته حتى إنّ طالي همّت بالقيام لولا التفاته إليها.

“لا أدري لماذا أولي الموضوع اهتمامًا خاصًّا. عنات انتهت بالنسبة لي قبل أكثر من سنة ونصف، لم أفكر بها منذ ذلك الوقت، اعتدتُ الحياة من دونها وأكاد أقول إنني راضٍ عن نفسي الآن. لا أستطيع فهم التعاسة التي تملكتني منذ أن أخبرتني. هي لا شيء بالنسبة لي، أو أنها كانت حتى الأمس. فجأة أدخل لأجدها جالسة في غرفتي تعيد إليّ كلّ ما دفنته عميقًا في قنوات الذاكرة الخائنة. دعتني بالأمس قبل أن تذهب من هنا إلى السّهر معها لأنها تودّ الحديث معي. التقيتها في البار الذي اعتدنا ارتياده في الأزمنة الجيدة. عندما خرجنا لم ندفع الحساب لأنّ صاحب البار سيصبح زوجها بعد أسبوعيْن. هكذا، ببساطة، بمنتهى البساطة كنت أشرب على حساب زوجها المستقبليّ من دون أن أدري. وددتُ لو أتقيأ ما شربتُ على الأرض تلك اللحظة. ثم ذهبنا إلى البحر. أخذت تحدثني عما مرّ عليها منذ أن انفصلنا، أي منذ أن رمتني إلى الكلاب. كيف أنها سافرت إلى الشرق الأدنى لنصف سنة وتعرفت على داني، زوجها المستقبلي، وكيف أنهما قضيا أوقاتا رائعة هناك. تقول إنّ الشرق والروحانية الخلابة هناك جعلاها تفهم نفسها جيدًا وتركّز أفكارها. اكتشفت أنها لم تكن تحبني وأنّ ما بيننا كان وهمًا جميلاً. واكتشفت أنّ داني هو الانسان الذي تحبّه حقا والذي تودّ قضاء بقية حياتها معه. وقالت أيضًا إنّ علاقتنا لم تكن لتنجح أصلاً لأنها يهودية وأنا عربيّ. فجأة تبخرت كلّ الأحاديث عن أهمية الجوهر والداخل مقابل الدين والقومية والاختلافات الاجتماعية، وعن قدرة الحبّ على إذابة كلّ هذه الحواجز والتغلب على الصعاب التي يمكن أن تواجهنا. فجأة، عندما صفت روحها وركّزت أفكارها عدتُ لأصبح عربيًا وعادت هي لتصبح يهودية.

“هل تكرهها؟”

“أيّ سؤال هذا؟.. هل أكرهها؟.. ما رأيك هل أكرهها؟”

“أنتَ مرتبك جدًا ومصدوم. الأفضل أن تستريح قليلاً.”

“عن أية راحة تتحدثين؟”

فجأة، وجد نفسه يطلق للسانه العنان. حدّثها عن عبلة وليلة أمس، عن أميرة وعباس، عن جولي، عن ليليان وما بدأ يدور في خلده. بعد هذه الاعترافات بدت طالي مصدومة فعلاً. أحسّ سمير بذلك فقام وجلس في الكرسيّ المقابل لكرسيها.

“هل عرفت الآن لماذا أنا مرتبك؟”

“يا إلهي.. هل يحصل معك كل هذا؟”

“وأكثر.”

 الهاتف يرنّ.

“آلو..”

“سمير، هذه أميرة.”

“أميرة!.. أين أنتِ؟.. أين اختفيتِ؟.. لقد تركتُ لك بلاغًا”-

“سمعته. أود رؤيتك.”

“وأنا أيضًا.”

“اليوم.”

“حسنًا، تعالي نلتقي على الغداء. الواحدة، جيد؟”

“حسنًا، أين؟”

“كابولسكي، نوردو..”

“حسنًا. باي.”

وضع السماعة. أميرة، كيف غابت عن تفكيره كلّ هذه المدة؟.. ماذا حلّ بها بعد انفصالها هي وعباس؟.. هل تكون عرفت باعترافه لعباس. أميرة، مسكينة أميرة.

“سأتركك الآن. على فكرة، من المؤكد أنك لم تقرأ الجرائد حتى الآن. لقد أعلنوا البارحة عن سرقة سلسلة “السيرك” لبيكاسو قبل أكثر من أسبوع.

(إلى صفحة الرواية)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *