ربيع الخريف

تكاملت الصورة المسرحية في أداء الممثلين حيث أنتج الثلاثة في حضورهم التمثيليّ-الأدائيّ وفي حضورهم الشخصيّ “العُمْريّ” عملاً مسرحيًا غير عاديّ هو “قصة خريف”، آخر إنتاجات “الميدان”

أوراق الشجر اليابسة المُصْفرَّة تتكوَّم على أرضيّة الخشبة مَشهدًا بَعدَ آخر، حتى تتحوَّل أرضية الحديقة العامّة التي تجري فيها الأحداث إلى أرضيّة خريفيّة ملأى بالأصفر والبنيّ الخريفييْن. إلى هذا تنضمّ الإضاءة الذّكية الماهرة (فراس روبي) التي تتقدّم وتتراجع وفق الموقف ووفق المشهد، راسمة بعناية كبيرة، إلى جانب التصميم الفضائيّ (نزار أمير زعبي)، أكثر التصميمات السينوغرافية إتقانا وسطوعًا التي رأيتها على خشبة “الميدان” منذ 15 عامًا وتزيد (أتذكر هنا أيضًا “حارق المعبد” و”أكسدنت موت الفوضوي” و”رابطة دم”).

إلى جانب هذا، تكاملت الصّورة المسرحيّة في أداء المُمثلين مكرم خوري وسلوى نقارة وسليم ضو، الممتازين، حيث أنتج الثلاثة في حضورهم التمثيليّ-الأدائيّ من جهة، وفي حضورهم الشخصيّ “العُمْريّ”، من جهة أخرى، عملاً مسرحيًا غير عاديٍّ هو “قصّة خريف” للكاتب الايطالي ألدو نيكولاي، آخر إنتاجات “الميدان”.

فالتقاء ثلاثة من مُخضرَمي مسرحنا الفلسطينيّ المحليّ أفرز مستوًى جديدًا لم يحدث أن حظينا به (رغم التجربة الأولى والأخيرة التي جمعت أكبر قدر من هذا الجيل وهي إنتاج “الميدان” الأول “الملك هو الملك”)، لا نقول إنه عتّم على إنجازات الجيل الجديد في أعماله المتميّزة (“حارق المعبد” و”رُكب” آخرها)، بل نقول إنه رسم مُميّزات جديدة للحضور المسرحيّ لم نعتَدْ عليها في إبداع الجيل الجديد (وجيل الوَسَط) من مسرحيينا مؤخّرًا (علي سليمان، عامر حليحل، لنا زريق، آمال قيس، أشرف برهوم، محمود قدح، خليفة ناطور، روضة سليمان، وغيرهم).

ولا شكّ في أنّ رؤية خوري ونقارة وضو (بانتظار يوسف أبو وردة ومحمد بكري وغسان عباس وغيرهم) على خشبة واحدة هو أمر ليس بالعاديِّ في المشهد المسرحيِّ الذي اعتدنا عليه، وعلى هذا يستحقّ “الميدان” تحية، خصوصًا في ظلّ وعي إدارته الكبير بأنّ المعادلة لا تكتمل إلا بحِرفيّين من جيل اليوم، لا يقلّون مهارةً وقدراتٍ عن جيل المُخضرَمين.

نصّ هذه المسرحية مَتين، إلا أنه صعبُ المراس، منزلق المنحدر. فهو مُنْبَنٍ على شخصيّات ثلاثة مُسنّين، رجليْن وامرأة، يمتهنون قتلَ الوقت في البستان العام بانتظار الموت. حواراتهم غير مُتميّزة ظاهريًا، تبدو مُملة للقارئ العاديّ لا شكّ ومليئة بالرّغو واللغط الشيخوخيّ، ومن هنا كانت مهمة بناء الحالة المسرحية من خلال هذه الحوارات مهمة شاقة، تستوجب الفطنة والذكاء في ترقّب وتبيان الفعل المسرحيّ الكامن في المشاهد وفي الشخصيات. فالأفعال المسرحية التي في النصّ، رغم ما يمكن أن يوحي به النصّ ظاهريًّا بالخمول والرتابة والاجترار، هي أفعال كبيرة، جوهرية، شديدة التعقيد والعمق، من حيث أنّ هذه الشخصيات الثلاث تحارب الموت (والنسيان والإهمال ومَقدم الخريف)؛ وهل هناك فعل مسرحيّ (وحياتيّ) أكبر من هذا، أجمل من هذا، لبناء الدراما؟

واستقراء الفعل المسرحيّ كأداة أساسية لبناء الدراما هي المهمة الصعبة التي تمرّس بها المخرج نزار أمير زعبي منذ “الجدارية”، مرورًا بـ “بين حرب بين” و”حارق المعبد”. فزعبي هو فنان إخراج الحوارات بلا منازع، وأعتقد أنّه الأول في هذا المجال لأنه يفهم أكثر من غيره من المخرجين والمُمثلين معنى الفعل المسرحيّ وكونه العنصر الأول والأخير في البناء المسرحي (وهذا ما يجب أن يفهمه كُتاب المسرح، أيضًا، قبل المخرج).

سليم ضو يؤدّي دور المُسنّ الغاضب، المغلق أمام المشاعر (في دور كوميدي-تراجيدي خلاب)، في مواجهة مكرم خوري الذي يؤدّي دور المُسنّ المُحبّ، فيما تلعب نقارة دور المُسنة التي لا تزال متشبثة بالحياة، بتصميم شعرها عند الكوافير، بالطبخ، بإطعام القطط. على هذه التناقضات انبنت الشخصيات وبرع الثلاثة في بناء شخصيات مسرحية متميزة، لكلٍّ منها النمط واللون اللذيْن يميّزانها، مما خلق حالة مسرحية غاية في الغنى والتنوّع جعلت من كل شخصية على الخشبة عالمًا مُتكاملاً، يختلف عن الباقي، لكنه يلتقي معهم في الأمور “الكبيرة”، في نقاط التّماس الوجوديّة التي لا مفرّ منها- تمامًا كما في الحياة.

هل الخريف المجازيّ-الفعليّ الذي تتمحور فيه مسرحية “قصة خريف” هو خريفنا الواقعي الآن، ثقافيًّا وسياسيًّا؟ مهما تكن الإجابة على هذا التساؤل، فإنّ إنتاج “الميدان” الجديد يجسّد ربيعًا ما في “الميدان” ومسيرته، تمثل في جمع نجوم ومخضرمي المسرح العربي الفلسطيني في البلاد مع طاقاته الجديدة. هذه خلطة متينة أنتجت مسرحية متينة، لتكون مسرحية “قصة خريف” برهانًا جديدًا على صحة الطريق الجديدة (الصعبة، الشائكة، الطويلة، الضبابية) التي خرج فيها “الميدان” مؤخّرًا، المُتمثلة في إعادة الكوادر المُؤسِّسة وتجنيد الكوادر الجديدة من أجل خلق حالة مسرحية-ثقافية أهم ما فيها التبادل المستمرّ إلى جانب الاستفزاز والتحفيز الكامنيْن في التقاء جيليْن مختلفيْن، يودّ كلّ طرف منهما أن يُثبت للآخر قدراته وطاقاته.

إذا لم تكن هذه الخلطة هي التعبير الأمثل عن شعار “بيت الفنانين”، فأنّى يكون التعبير؟

 (نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 14 حزيران 2008)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *