حنظلة ما زال يدير ظهره لنا

علاء حليحل

* مسرحية “البحث عن حنظلة”. إنتاج: المسرح الوطني الفلسطيني. قاعة مسرح “الميدان” في حيفا الخميس الماضي *

خيط رفيع، لكنه متين ومثابر، يربط بين مسرحية “لا لم يمت” (إخراج: فريدريك ميرلو، تأليف: حسين برغوثي) وبين مسرحية “البحث عن حنظلة” (إخراج وإعداد: مكرم خوري، تأليف: غنام غنام)، التي عُرضت يوم الخميس الماضي في قاعة مسرح “الميدان” في حيفا. هذا الخيط يمكن تسميته بالعصب الجديد للمسرح السياسي الفلسطيني. من أهم مميزات هذا العصب في المسرحيتين هو البحث وانتظار عودة “الشخص”. في “لا لم يمت” كان الانتظار والبحث هو عن المهدي وماهيته، في “البحث عن حنظلة” هو عن الرمز الكاريكاتيري الذي أبدعه ناجي العلي. ربما هي الأوقات العصيبة التي يمر بها الفلسطيني أينما كان، التي تدفع الى مثل هذه الأعمال التي لا ترى في الواقع المطروح أي بصيص من النور.

المسرح السياسي المذكور أعلاه بدأ بالتنازل عن دوره التثويري والحشدي والشعاراتي، وأخذ على نفسه مهمتين رئيسيتين جديدتين ومصيريتين في مجال تطور المسرح الفلسطيني والسياسة الفلسطينية: المهمة الأولى هي طرح الأسئلة العميقة- الوجودية- الأزلية- “غير السياسية” وغير اليومية؛ والمهمة الثانية هي عدم محاولة الإجابة على كل الأسئلة المطروحة (وهي محاولة مستحيلة في أيامنا) في العمل المسرحي.

المهمة الأولى هي مهمة صعبة وشاقة. من أجل السعي الى تنفيذها بأمانة، على الطاقم المسرحي (الاخراج، التأليف، المؤثرات، التمثيل) أن يكونوا على قناعة تامة بأنهم شخوص مسرحية في الأساس، ومن بعد ذلك هم فلسطينيون. يبدو هذا الأمر للوهلة الأولى مثقلا بالتناقضات، خاصةً إذا استرجعنا أن هذا الطاقم يصنع مسرحًا فلسطينيًا. هذا صحيح. ولكنهم يصنعون أيضًا مسرحًا سياسيًا. ولكي يكون المسرح السياسي ناجحًا، فإن عليه أن يمتهن ذبح البقرات المقدسة، واحدةً بعد الأخرى، من دون شفقة، ومن دون مواربة أيًا كانت! “البحث عن حنظلة” تفتح أمام المشاهد آفاقًا غير محسومة وغير منتهية من إعادة طرح الأسئلة، وتفكيكها ومحاولة المرور بين علامات السؤال والاستفهام، دون أن يفقد المرء قدرته على الحلم و”تربية الأمل”، كما سبق ووصف محمود درويش مهنة المحاصَر في أيامنا. المحاولة الثانية، وهي محاولة الاجابة عن كل الأسئلة، وبالحري عدم محاولة الاجابة عن كل الأسئلة، هي ليست من وظيفة المسرح السياسي. المسرح السياسي ليس حزبًا يطرح برنامجه ومرشحيه، بل عليه أن يبرز الأسئلة التي على الأحزاب والحركات على اختلافها أن تحاول الاجابة عليها. فيما لو حاول المسرح أن يكون بديلا للسياسة في سيرورتها اليومية والضيقة فإنه سيتلاشى مع الوقت ليبقى مزيجًا من الشعارات لا أحد يذكر منها شيئًا. عدم الوقوع في هذا المطب هو مهمة صعبة جدًا على كل مسرح أن ينتبه اليها.

يمكن في سياق هذه المحاولة الأولى لرسم ملامح “البحث عن حنظلة” الكتابة بإسهاب بعض الشيء عن بعض المعوقات التقنية والأدائية هنا وهناك. ولكن في المحصلة، تبقى مسرحية “البحث عن حنظلة” مسرحية جيدة، وفي بعض المقاطع منها، جيدة جدًا، لأنها تجاوزت الشعار والأنظومة الجاهزة من الحوارات والمبنى، وأدعي هنا أنها قامت بالمهمتين المذكورتين أعلاه على أتم وجه. مكرم خوري المخرج استطاع إنتاج عدة مستويات في العمل الواحد، أضفت كلها، وكل واحد على حدة، جمالية خاصة، والأهم، أن التفاوت في المستويات والمضامين والمشاهد، كوّن صورة غير اعتيادية من المسرح الذي لم نعهده سابقًا. أمثلة: الانتقال السلس والمثير في غالبيته، بين عملية البحث الجادة والمضنية التي تقوم بها فاطمة (ريم اللو) المبعوثة من جديد، عن حنظلة، وبين المقاطع التهكمية شديدة الكوميدية في بعض الأحيان، التي تجري بين الضابط (كامل باشا) وبين الجندي، حنظلة المفترض (رمزي الجعبة). هذا الانتقال الناجح بين “الجاد” و”الهزلي” هو إنتقال يحمل الكثير من التمويه. فالهزلي هو الجاد بعينه. مضامينه تحقيقٌ مُذلٌ ومأساةٌ وجوديةٌ من الدرجة الأولى. ولكن الشكل كوميديٌ أسود. هذا التناقض بين الشكل والمضمون خلق حالةً إضطرابية عند المشاهد حملته بنجاح الى المشاهد الدرامية (الثقيلة أحيانًا والمنهكة) التي كانت تؤديها فاطمة البائسة. مثال آخر: عملية بناء مشهد درامي طويل، فيه الهزل والمأساة، من أجل الوصول الى نتيجة تهكمية تتلخص في جملة قاصمة. المثال الفوري الذي أذكره هو حين قالت فاطمة: “لو كل واحدة ذبحت زوجي حمام لزوجها العائد، لما بقي حمام للسلام”. مثل هذه “العصارات” من الجمل والمواقف كانت تعين المشاهد على تذويت الحالات الوجودية التي تحاول المسرحية نقلها، وأيضًا الضحك بمرارة على هذه الحالات ذاتها. كما أن تفاصيل البحث والبلبلة والنهاية المفتوحة والمأولة على أكثر من وجه، كما يليق بالمسرح الرمزي، أعطت الشعور العام بأن حنظلة ما زال يدير ظهره لنا ويرفض أن نرى وجهه!

كامل باشا أدى مهمته بكل دراية وحذق. باشا برز كممثل ضالع وقدير، استطاع أن يحمل على كاهله السوداوية والتهكمية الممزوجة بالمرارة الباعثة على التسخيف والتسطيح. في المقطع الفاتح للمسرحية، في إحدى الأماسي الغربية لتجنيد أموال لملعب كرة مضرب في عاصمة أوروبية ما عن طريق معرض لكاريكاتيرات ناجي العلي، في هذا المقطع ضرب باشا بنجاح كبير وتدًا مهمًا جدًا لتوضيح معالم المسرحية وتطورها: نحن سنبدأ من السخرية والباقي على الله.

الطاقم بشكل عام أبلى بلاءً حسنًا، ورمزي الجعبة أدى دورًا جذابًا ورشيقًا ومتقنًا، وأعتقد أن العين المسرحية يجب أن تُوجه باتجاهه في الأعمال القادمة، خاصةً بأدوار رئيسية. المؤثرات تفاوتت أحيانًا في صدقها وفي نجاعة توظفيها هنا وهناك، ولكنها كانت موفقة في توفير الأرضية الحسية والمادية للمشاهد ليقع أسيرًا في أيدي الممثلين.

“البحث عن حنظلة”- إنتاج: المسرح الوطني الفلسطيني؛ إعداد وإخراج: مكرم خوري؛ تأليف: غنام غنام؛ موسيقى: مراد خوري؛ تصميم ملابس: حمادة عطاالله؛ سنوغرافيا: عماد سمارة ورمزي الشيخ قاسم؛ رسومات: ليالي صبح؛ تمثيل: كامل باشا، ريم اللو، رمزي الجعبة، إياس الجعبة، رمزي أبو عصب وغانم الجعبة.

(نُشرت هذه المادة في ملحق “المشهد الإسرائيلي” في تشرين الثاني 2002)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *