ثم مات…

علاء حليحل

1

جلسنا على العشب الأخضر في ساحة خلفية في مستشفى “رمبام” في حيفا: سامي مطر، عامر أخي وأنا. كنا ندخن ونشرب القهوة رغم أنّ سامي كان قد خرج لتوّه من أزمة قلبية. تحدّثنا عن قلبه. عن الوَجيف الخفيف في فضاء الأوعية وعن القطعة الكهربائية التي زرعوها ومن المفترض أن تحلّ كلّ المشاكل. ضحكنا على العِلم وتقدّمه وقلت له: إنبسط، صرت “هايتكِّسْتي” عن جدّ. بعد أشهر معدودة مات. انتصر وجيف القلب على فرح القلب. خانه قلبه ومات.

وهكذا كرهنا القلب الذي أحببناه جدًا؛ القلب الخائن!

2

أتأمّل الصورة مرة بعد أخرى. منذ أن أنزلتها من الكاميرا وهي تحتل مكانًا مضمونًا غير قابل للتفاوض على شاشة الحاسُوب. أفتحها من مرة لأخرى: اجتماع لهيئة تحرير موقع “قديتا” في الشقة التي كانت تسكنها رشا وأسماء في حيفا. هشام يدير الجّلسة وأنا أتكتك صورًا بكثرة وبحماس، كأيِّ طالب مجتهد للتصوير. لم أكن أعرف. لو كنت أعرف في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010، السّاعة 19:33 أنّ سامي سيموت بعد (أقلّ من) سنة من هذه الجلسة، لركّزت الكاميرا عليه أكثرَ. لاستثنيت هشام ورشا من اليسار، وراجي ومجد وأسماء من اليمين، وأبقيت سامي في الصورة، قريبًا، على مرمى قبلة. لكنني لم أعرف. لذلك بقي سامي في محله الطبيعيّ: في منتصف الحبّ بينه وبيننا.

الصّورة واجمة. الجميع يُنصت بحذر ما. ماذا كان يقول هشام ساعتها؟ بماذا كان يفكر سامي؟ هذه قساوة الصور؛ رغم كرمها في البيكسلات التي تخلد اللحظة إلا أنّ البيسكلات الكريمة ذاتها هي التي تقتل تلك اللحظة. إذًا لا مفرّ: الصّورة الأخيرة في الذاكرة هي الجميلة وليست صور الكاميرا. والصّورة الأخيرة كانت رسالة بالإيميل في 8 أيلول 2011، قبل ثلاثة أيام من موته. رسالة يردّ فيها على رسالة لأسماء حول ملفٍّ للشعراء الشباب. سامي مات والملف لمّا ينتهي بعد. الشعراء الشّباب عمرهم أطول من قلب يرتجف منذ الولادة: قلب سامي كان يرفّ ولا يتوقف عن التهديد بالموت. ربما لهذا كان دائم الابتسام، كأنه يعرف سرًا لا نعرفه. يعرف أنه سيموت قبلنا، ولذلك كان متسامحًا معنا دائمًا.

سامي لم يُنهِ التحضيرات لملف الشعراء الشباب. مات كالتفعيلة وحيدًا في قصيدة النثر.

3

يسألني الكثيرون: من هو سامي مطر الذي كتبتَ الإهداء له في كتابك الأخير؟.. أجيب ببساطة: صديقي. مات في عزّ شبابه.

يا لسعادته الكبيرة: مات في عزّ شبابه. يا لشقاوتنا الكبيرة: سنموت في عزّ خريفنا. في برد شتائنا. لن يبكينا أصدقاؤنا بحرقة لأنهم سيكونون قد نسوا ما البكاء. الخريف لا يقوى على جمال الربيع. الربيع أجمل لحظات الاحتفاء.

يا لحزننا الكبير: مات في عزّ شبابه!

4

سامي أجمل ما فينا. في العادة، تنهمر الكلمات في المديح والرثاء لمن رحلوا. لكنّ سامي كان فعلا أجمل ما فينا. يقبض على مَواطِن الفرح، يتحايل على المنغصّات ويمتلئ طاقة كلَّ يوم من جديد. يُحبّ حيفا ويافا ويكتب فلسطين أسطرًا من برامج حاسوبية. يترجم مضامين البلد في مواقع سايبر ويُرقّص الصّامدين عند مفارق اللذة بين الليل والنهار. يعيش بلا تكلّف، لا يحمّل الآخرين أكثر ممّا يستطيعون، يوزّع الضّحك بسخاء، يمتهن الجاذبية المُغرية، يكتب قصصًا من الحميمية على جدران هذا العالم القاسي. يلوّن فلسطين بروائح النساء التي أحبّته.

سامي أجمل منّا. أجمل ممّا نستطيع. أجمل ممّا رغبنا.

5

ثم مات…

(نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 13 أيلول 2012)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *