باعثُ الحداثة فرنسوا إلى مثواه الأخير: جنازة كئيبة

لم يختلف أحد للحظة على إسهام فرنسوا في تأسيس المسرح الفلسطيني المعاصر. كان الاختلاف على من ظلمه أكثر ومن ابتعد عنه أكثر ومن أهانه أكثر. قد تبدو هذه الكلمات فظة وغليظة في نصٍّ يودّ أن يكون احتفاءً بجنازة “مُهيبة” أو “ذات وقع” أو “ذات حضور”، لكنها لم تكن كذلك

 علاء حليحل

بحضور لم يتجاوز المئة وخمسين شخصًا، ودّعت القدس أمس الأربعاء الفنان المسرحي الطلائعي، فرنسوا أبو سالم، باعث الحداثة في المسرح الفلسطيني في سنوات السبعين والثمانين، الذي أسس مسرح “الحكواتي” في القدس (1984)، “الذي أدى إلى انشطارات فنية” جاءت بعده، كما قال الفنان المسرحي راضي د. شحادة على منصة الوداع في قاعة المسرح. وسبقت ذلك تسجية جثمانه في مسرح “عشتار” في رام الله، الذي تديره رفيقة دربه الفنانة إيمان عون.

اِنتهى مشوار فرنسوا بيده، كما أراد له أن يكون، بعد أن عانى في السنوات الأخيرة اضطرابات نفسانية مزمنة، لم يُخفف من حدتها جوّ القطيعة الذي أحاطه من جهات وأفراد مسرحيين مركزيين في فلسطين (الداخل والقدس والضفة)، كانت أبرزها القطيعة المُعيبة التي فرضها عليه مسرح “الحكواتي” في القدس (المسرح الوطني الفلسطيني بتسميته الجديدة). فالكثير من المسرحيين تذكروا أثناء الجنازة عدد المرات التي رفضت إدارة المسرح منح القاعة لأبي سالم للتدريب أو حتى لعرض لمسرحياته، والبعض شهد على طلب نقود سلفًا منه قبل العرض في المسرح الذي أسّسه!

كانت جنازة فرنسوا حزينة أيضًا لأنّ موت الفنان والكاتب لدينا لا يستأهل أيّ اهتمام من أحد. المسرحيون والكتاب يموتون لدينا كالأيتام. قبله بيومين شيّعنا الشاعر الكبير طه محمد علي، ولم ترَ جنازة تليق بشاعر روى ضمير شعبه بذكاء وحساسية نادرتيْن. فوق نعش فرنسوا على خشبة “الحكواتي” عُلقت مجموعة بالونات تُذكر باسم فرقته المسرحية الأولى “بلالين”، التي جمعت الطاقات المسرحية الشابة بعد احتلال 1967. البلالين كشاهد على العصر…

لم يختلف أحد للحظة على إسهام فرنسوا في تأسيس المسرح الفلسطيني المعاصر. كان الاختلاف على من ظلمه أكثر ومن ابتعد عنه أكثر ومن أهانه أكثر. قد تبدو هذه الكلمات فظة وغليظة في نصٍّ يودّ أن يكون احتفاءً بجنازة “مُهيبة” أو “ذات وقع” أو “ذات حضور”، لكنها لم تكن كذلك. كانت جنازة كئيبة؛ لم تكن كآبتها جنائزية حزينة عادية بحكم الموقف، بل كانت كئيبة مثل كآبة فرنسوا التي دفعته إلى الهاوية.

لم يكن فرنسوا إنسانًا سهلا. للجميع في الجعبة نوادر وقصص عن الشجارات والخلافات و”النهفات” معه. كان “جنونه” جزءًا من تميّزه وجزءًا من سيئاته، لكنه فنان، ومن يطلب من الفنان أن يكون منطقيًا؟.. من يستطيع أن يكون منطقيًا اليوم؟

من المسرح انطلق الموكب صوب كنيسة الروم الأرثوذكس في شارع نابلس ومن ثم دفنه. سمحت عائلته الفرنسية بدفنه في القدس كي يبقى قريبًا من المكان الذي عاش فيه. أخاف عليه أن يصير معه مثلما صار مع محمود درويش: دفنوه في موقع “اعتباري” ونسوْا أنّ الفنان والشاعر ملك لدموع أمه فقط. كنتُ أريد للحظة أن أمسك بأمه وأن أهزّها بحدّة: خذيه من هنا! خذيه إليكِ!

في الغالب يكون عزاء الطلائعيين نهاية اعتبارية تعيد لهم مكانتهم التي فقدوها وهم “مجانين” في نظر المجتمع. ولكن فرنسوا لم يحظَ بهذه النهاية. حتى إنّ أحد المسرحيين البارزين في القدس قال إنه لن يشارك في المراسيم (ولم يشارك) لأنّ فرنسوا مات انتحارًا وهذا ممنوع في الإسلام! تخيلوا هذا الكمّ من القباحة مقابل الكمّ الكبير من الجمالية التي أسّس لها فرنسوا. ثم حاولوا أن تسيروا وراءه في الجنازة من دون رغبة خفيفة، دفينة، بإلقاء أنفسكم من على سطح عمارة…

(نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 6 تشرين الأول 2011)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *