الاحتجاجات الإسرائيلية: عن العجول والرضاعة من الذئبة

نحن في موقع تاريخي وزمني يجب أن يجعلنا أكثر حذرًا ودراية في التعامل مع هذا الجمهور. صحيح أنه جمهور متنوع، لكنهم لا زالوا مثل “روميولوس” و”ريموس” يرضعون الحليب من الصهيونية الذئبة

علاء حليحل

يمكنني أن أفهم، حقيقة، الحماس الذي قد يدبّ في نفوس الشبان والصبايا لمرأى مئات آلاف المتظاهرين في تل أبيب وحيفا والقدس وغيرها، ولكن من الصعب أن أتفهم هذا الانجراف الطفوليّ وراء هذه الظاهرة، حتى عند حزبيين –بعضهم عريق- في الحزب الشيوعي الإسرائيلي والجبهة، وبعض أطراف المجتمع المدني و”العائمين” من الشبيبة والشباب.

فمثل هذا المشهد يُذكّرنا أوتوماتيكيًا بجماهير ميدان التحرير القاهرية، مع فارق جودة الصورة والصوت. هذا الفارق في الجودة ليس تفصيلا تقنيًا فقط، بل هو جزء من الاختلاف الجوهريّ بين الميدانين: ميدان التحرير في القاهرة وميدان الدولة في تل أبيب؛ في الأول بثت “الجزيرة” (وغيرها) الصّور عبر وسائل بدائية من هواتف محمولة وحيل إلكترونية أخرى، بسبب المنع والتعتيم اللذيْن فرضهما نظام حسني مبارك وقتها، فيما سخّر الإعلام الإسرائيلي الإلكتروني كلّ ما يملك وما لا يملك من أجل بثّ صور وأصوات “ميدان الدولة”. في القاهرة خرجوا من أجل حقوق أساسية لشعب مقموع يسعى لحرية التعبير والحياة والعيش بكرامة والخروج من دائرة دولة المخابرات. في تل أبيب خرجوا من أجل النقود، ضد الغلاء.

يحق للإسرائيليين أن يتظاهروا ضد الغلاء، ولكن في رفضهم العنيد عدم إقحام “السياسة” في احتجاجاتهم، تحوّلوا إلى مجموعة ضغط (لوبي) مشابهة تمامًا لمجموعة الأثرياء الذين يسيطرون على الدولة: المتظاهرون في الشوارع والأثرياء في أروقة الكنيست والوزارات الحكومية. في مثل هذه المعركة لا مكان لي كعربيّ فلسطيني لأنني لا أملك التأثير أو الوجود في كلتا المجموعتين (وجود القوائم العربية في الكنيست هامشي وصار مسيئًا في بعض جوانبه)، حتى لو تلفعتُ بالكوفية الفلسطينية وأنا أسير في مظاهرات إسرائيلية تسعى لخلق “إسرائيلي جديد”.

“الإسرائيليون الجدد” يثورون على العِجل الذهبي الذي سجدوا له منذ تأسيس هذه الدولة. هذا عِجلهم، عليهم أن يحطّموه بأنفسهم. ما دخلي أنا؟ فليحطم كلٌ عجولَه بنفسه

الاحتلال والاستيطان بتكاليفهما الباهظة أوصلا المجتمع الإسرائيلي إلى هذا المكان. لا ينحصر الأمر في التكلفة المادية فقط، بل يتعدّاه إلى تنشئة جيل كامل من الإسرائيليين (المُنوَّمين) على أهمية “أرض إسرائيل” والاستيطان، ممّا أدى إلى أمور عدّة، أهمّها: تكريس وتأليه ميزانية الأمن (من سيحرس الاحتلال والمستوطنات وينقذ شعب إسرائيل الحائر من العرب؟)؛ تفضيل المستوطنات في الضفة الغربية على إسرائيل في داخل الخط الأخضر؛ إسكات أيّ صوت اجتماعي بحجة أنّ الأمن سيد الموقف ولا ثانيَ له؛ والأهم، بالنسبة لي كفلسطيني، تحويل الفلسطينيين إلى كائنات شفافة تستحق السحق والخنق والتهميش من دون أن يخرج إسرائيلي واحد في تل أبيب الأبية احتجاجًا على الأبرتهايد. “الإسرائيليون الجدد” الذين يتظاهرون الآن في الشوارع والميادين يثورون على العِجل الذهبي الذي سجدوا له منذ تأسيس هذه الدولة. هذا عِجلهم، عليهم أن يحطّموه بأنفسهم. ما دخلي أنا؟ فليحطم كلٌ عجولَه بنفسه.

على الإسرائيليين الجدد أن يجتهدوا كثيرًا منذ هذه اللحظة، لأننا نجتهد –عبثًا- منذ 1948. لماذا نركض بهذه اللهفة الخاوية كلما شمّر بعض الإسرائيليين عن أفخاذهم؟ نحن في موقع تاريخي وزمني يجب أن يجعلنا أكثر حذرًا ودراية في التعامل مع هذا الجمهور. صحيح أنه جمهور متنوع، لكنهم لا زالوا مثل “روميولوس” و”ريموس” يرضعون الحليب من الصهيونية الذئبة.

من السّذاجة بمكان أن يتعامل فلسطينيون من أقليتنا مع ما يجري على أنه انتفاضة طبقية أو هبة اجتماعية ستأتي على اليابس وتحرقه في غفعتايم ورمات هشارون ومصمص وشفاعمرو. إنها السذاجة نفسها التي اجتاحت أروقة اليسار العربي هنا عند بدء موجة هجرة الروس في مطلع التسعينات، فكنتَ ترى سياسيين وكتابًا ومثقفين مركزيين يهللون لنهاية فترة وبداية فترة، لأنّ “الرفاق” من الاتحاد السوفييتي سيحوّلون إسرائيل إلى واحة حمراء نلهو بها ونرتع. لقد عُقد الأمل وقتها على تحويل إسرائيل إلى دولة اشتراكية، تمامًا مثلما آمن الأباء في 1947 بأنّ دعم الاتحاد السوفييتي لقرار تقسيم فلسطين وإقامة “وطن يهودي” عليها سيفضي في النهاية إلى دولة اشتراكية. هذه سذاجة قاتلة، والأخطر منها التعلق بكلّ قشة جماهيرية –مهما بدت ضئيلة وغير واقعية- من أجل الصراخ عاليًا –مرة تلو الأخرى: “لا زلنا على قيد الحياة”!

أختلف مع العزيز سلمان ناطور في وقفته على منصّة هذا الاحتجاج “الوُسط-طبقيّ” في حيفا، أمس السبت، وأعتقد أنّ شخصًا مثله كان يجب أن يربأ بنفسه عن مثل هذا المحفل المنافق. طبيعيّ أن يقف عليها منتفعون حزبويّون صغار، ولكنّ إنسانًا بقامة ناطور يجب أن يرى بين هذه الحشود الانتماء الإسرائيلي الصهيوني المتجذّر فيهم، الذي يمنعهم من سماع صوت أنّات البيوت العربية المهدومة التي تحدّث عنها في خطابه. لو أنهم كانوا يقفون أمامه ويرفعون لافتات سياسية ضد الاحتلال والاستيطان وحكومة بيبي-ليبرمن، لكان الحال أفضل بكثير، وعندها يمكن لكل التيارات الحزبية أن تجتهد اجتهادها الخاص وأن تخرج بمواقف أراها جميعًا شرعية، حتى قرار المشاركة والانخراط. أنا مع البراغماتية السياسية، خصوصًا ما دمنا نلعب لعبة الكنيست، ولكن بربّكم عن أية براغماتية نتحدث والطرف اللاعب قبالتنا “لا يرانا من نصف متر”؟؟

العرب لن يتمتعوا بأيّ شبر من الأراضي كون 93% من أراضي الدولة تُدار بواسطة “المنهال” و”كيرن كييمت”، اللذيْن لا يؤجّران أو يبيعان الأراضي للعرب

وإلى اعتبارات عملية أخرى: في حال قيام الدولة، كرد فعل على الاحتجاجات، بتسريح أراضٍ للبناء والسكن من أجل حلّ ضائقة السّكن وإيجار الشقق وبيعها، فإنّ العرب لن يتمتعوا بأيّ شبر كون 93% من أراضي الدولة تُدار بواسطة مديرية أراضي إسرائيل (المنهال) والصندوق الدائم لإسرائيل (كيرن كييمت ليسرائيل)، اللذيْن لا يؤجّران أو يبيعان الأراضي للعرب. هذا يُذكّر مثلا بالتماس “هكيشت همزراحيت” (القوس الشرقي) إلى المحكمة العليا الإسرائيلية بعد أزمة الكيبوتسات وقرار خوصصة أراضيها وبيعها للكيبوتسات نفسها. عندها طالب الناشطون السفراديم (الشرقيون) بحصة من هذه الغنيمة التاريخية. هل سيحدث مثل هذا بعد قرار تسريح الأراضي للبناء؟ هل سنلجأ للعليا كي تخصص لنا 20% من الأراضي التي صُودرت منا أصلا؟

كما أنّ أزمة الغلاء في الشبكات التجارية لا تسري على غالبية العرب، كون المراكز التجارية في القرى والمدن العربية تلعب في ملعب آخر، لاختلاف البنى التحتية الاقتصادية وتكاليف التشغيل الجارية، وهذا ما يفسّر مقدرة عائلة عربية من سبعة أنفار على العيش بثمانية آلاف شيكل في الشهر. لذا، فالعرب (بأغلبيتهم) لا يلعبون لعبة “ميغا” و”شوبرسال”. أما النقطة العملية الثالثة التي تبعدنا عن هذه المظاهرات، فتتجسّد في أنّ المطالب التي يطرحها المُحتجّون غالبيتها “وُسط-طبقية” لا تلبي حاجات الأقلية العربية الطارئة. المطالب تفترض خطًا معيّنًا من مستوى الحياة وتريد القفز فوقه بدرجتين. نحن تحت هذا الخط المفترض بأربع أو خمس درجات. ما ستحققه هذه المطالب هو عدل نسبيّ، سيستفيد منه القليل من العرب (وأنا منهم على فكرة، كوني من الطبقة الوسطى العربية)، إلا أنّ الأغلبية الساحقة ستجد نفسها مرة أخرى خارج الكعكة المشتهاة.

من المثير أحيانًا أن يرى المرء ردّ الفعل الشعبي لدى جماهيره، التي تقاطع هذه الاحتجاجات ولا تلبي النداءات والعناوين التي تحثها على “المشاركة”. كيف يمكن أن ينسى العرب مشاهد القتل والعنصرية والاستعلاء عندنا وفي الضفة والقطاع؟ ثمة قطيعة هائلة بين الشارع العربي والشارع اليهودي والأغلبية هي المسؤولة المطلقة عن هذا، بحكم موقعها. من الوقاحة أن تتوقع هذه الأغلبية أن ننسى الآن كل ما حدث هنا منذ 1967 (على الأقل) وأن نمشي معًا يدًا بيد مع امرأة أو رجل بعثوا قبل يومين ابنهم وقرّة عينهم للخدمة العسكرية في الضفة أو غزة، من دون أن يكونوا قادرين على رؤية التناقض الهائل بين “موقفهم الاجتماعي” وبين “موقفهم السياسي”.

بعد أن ينتصر أبناء عمومتنا على عجلهم الأمنيّ والاحتلاليّ، ويتحرّروا من أصفاده، سيجدونا مُصغين متيقّظين لما يمكن أن نسمّيه: بداية الحديث عن مظاهرات وتصوّرات مشتركة.

 (نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 4 أيلول 2011)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *