أرقٌ في عينيْ مدير الجمعية

علاء حليحل

(1)

إستيقظ مدير الجمعية باكرًا جدًا على غير عادته، ولما اكتشف أنه غير قادر على النوم ثانية، أسلم أمره إلى الله وقام ليغسل وجهه. وكان طيلة الليل يتقلب من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين، غير قادر على الاستقرار في جانب واحد من خارطة سريره السياسية.

في الطريق إلى الحمام لمح الساعة المنبهة: الرابعة وعشر دقائق. نظر إلى زوجته النائمة وقرر ألا يضيء اللمبَة في الغرفة، فسار في العتمة على مهل حتى وصل إلى الحمام، فرفع زر الضوء، ثم اقترب من المرآة وقبل أن يفتح الحنفية لغسل وجهه اقتنص الفرصة لينظر إلى وجهه في المرآة مليًا؛ فهو لم يفعل ذلك منذ قرون. وتذكر على الفور أنه لم يرَ أمامه في السنين الأخيرة إلا وجه مدير الجمعية المنافسة البغيض، ففتح الحنفية وأغرق وجهه بمياه نهايات الشتاء الباردة.

دلف مدير الجمعية إلى المطبخ وملأ غلاية القهوة الصغيرة بالماء ووضعها على لهب الغاز، ثم عاد إلى الحمام وبدأ بتنظيف أسنانه بالفرشاة الفضية التي اشتراها من جنيف قبل أيام، والتي قصدها للمرة السابعة في حياته، لاجتماع موسع مع إدارة “الاتحاد الأوروبي”. وحالما تذكّر النصر الكبير الذي حققه هناك ملأت الابتسامة وجهَه العريض، وأخذ يستذكر تفاصيل هذا النصر: كيف فضح مدير الجمعية الآخر البغيض أمام المُموّلين، وكيف فنّد كل ما جاء في تقرير الجمعية المنافسة الكبير الذي قدموه للمفوضية، والذي شكّل بالنسبة لهم مصدر فخر أمام “الجمع الدولي”، وشكّل في ذات الوقت مصدر قلق كبيرًا له- في نفس “الجمع الدولي”.

بصق ما في فيه من رغوة ومعجون أسنان وتمضمض مرتين، ثم مسح وجهه ورأى أنه يبتسم لوجهه في المرآة بحبٍ كبير، فطرب وجذل وشعر فجأة ببعض الحياة تدبّ في عضوه التناسلي، فتذكر أنه لم يضاجع زوجته منذ شهرين، وأنها لا بد تشكّ في أنه يضاجع مُجنِّدة الأموال في الجمعية- وهو ما يفعله فعلا في فندقهما المفضل. ففكّر لوهلة في مباغتتها و”القفز” عليها وهي نائمة، وقد يكون من الصواب أيضًا أن يهديها زجاجة العطر الفاخر التي جلبها لمُجندة الأموال، إلا أنه عدل عن تهوّره المبالغ به، وقرر أن يشرب قهوته بهدوء ويراقب فجر اليوم الجديد- بكل معاني الكلمة.

فمُجندة الأموال تنتظره على أحرّ من الجمر!

(2)

لم تكتب جريدة “هآرتس” عن سفره إلى الخارج واجتماعه بكبار المسؤولين في الـ “أي يو” (الاتحاد الأوروبي)، مع أنه أغرق مراسل الجريدة بالمهاتفات والبيانات والصور التي التقطها لنفسه مع أعضاء الـ “أي يو” بواسطة الكاميرا الرقمية المتطورة التي اشترتها الجمعية لتوطيد علاقاتها (علاقاته) مع وسائل الاعلام المكتوبة. وعلل تجاهل المراسل في سرِّه بالعلاقة الوطيدة التي تجمع مدير الجمعية الآخر البغيض بهذا الصحفي الذي يكتب عن العرب في هذه الجريدة، وتنبّه إلى أنّه كان طلب قبل أسبوعين اجتماعًا مع رئيس تحرير “هآرتس” ليوضح له الصورة ويطلب منه تغطية عادلة أكثر لجمعيته، أو له على الأقل. التقط هاتفه النقال وهمّ بالتحدث إلى سكرتيرة الجمعية للاستفسار عن الموعد مع رئيس تحرير “هآرتس” إلا أنه عدل عن الفكرة حين تنبّه إلى أنّ الساعة لم تتعدَّ الخامسة صباحًا بعد، فانثنى وعاد إلى قراءة الجريدة.

ها هو الدليل: خبر بالبنط العريض عن الجمعية الأخرى الكريهة، في أعلى صدر الصفحة السابعة، وصورة المدير الكريه إلى جانب الخبر! أبشِـع به من إنسان، فكّر مدير الجمعية، وهو يتفحّص منظر المدير الكريه الآخر يطلّ عليه من جريدة “هآرتس” وأحسّ بأنّ البسمة الخفيفة التي بانت أطرافها الخفية عند زاوية شفتيّ المدير ابن الزانية موجهة له بالذات، وأحسّ أيضًا بأنّ ضغط دمه بدأ بالارتفاع ، ودقات قلبه بالتوتر، فالتقط هاتفه النقال من طراز “الجيل الثالث” وهمّ بالتحدث إلى مراسل “هآرتس” الحقير، إلا أنه انثنى مرة أخرى عن الاتصال لأنه تذكر مرة أخرى أنّ الساعة لمّا تُتمّ الخامسة صباحًا.

اجترع غيظه وكظمَه، وعاد ليتصفح الجريدة ويرتشف قهوته الحلوة. ولكنه لم يستطع أن يقرأ الجريدة كما يجب؛ فبعد كل خبر يقرأه في صفحة ما وجد نفسه يعود إلى الصفحة السابعة وينظر (خلسةً أو صراحةً) إلى صورة المدير الآخر، ابن المراغة، ويتأبّط شرًا.

وربما هي النفس الجريحة التي تبحث عن ملاذ وطبيب، وقد تكون الرغبة في استعادة النصر الماحق الذي حققه في الاجتماع إلى كبار مسؤولي الـ “أي يو”، هي التي دفعت به إلى استذكار وتذكّر تفاصيل الجلسة باهرة النجاح التي جمعته بهم في جنيف، وكيف أنهم كانوا يهزون رؤوسهم تلمظًا وقرفًا مما يسمعونه منه عن هذا المتخلف المتحرش بكل ما هو أنثى، والذي يضاجع مجندة الأموال عنوةً، والذي يظن أنه من بناة المجتمع المديني بحقٍّ وحقيق.

ثم بدأ بتذكّر تفاصيل المحادثة مع نائبة مدير صندوق “فورد” التي زوّدها في لقائهما في بروكسل قبل شهرين بتفاصيل مثيرة عن طرق وآليات عمل ذلك المدير المسهول، وكيف أنها أشرفت على الغثيان جراء التفاصيل التي أتخمَها بها، حتى أنها صرخت في النهاية: “Oh Dear God”!!

(3)

ولكنه متأكد من أنّ السبب الأساسي من راء هذا التجاهل الاعلامي هو استقالة الناطقة بلسان الجمعية، التي ركلت المعاش الضخم وظروف العمل الجيدة والضمانات الكثيرة لأنها لم تعد تحتمله لثانية واحدة! وصار يقول لكلّ من يرغب إنه هو الذي فصلها، للتعويض على مهانة عميقة دبّت فيه وفي أعضاء الطاقم المغرورين، الذين اعتقدوا أنّ لا أحد في العالم يمكن أن يستقيل من هذه الجمعية “الأهم من نوعها في العالم”.

وكي يكون ازدراد المهانة أسهلَ وأكثر لينًا، طفق مدير الجمعية ومن حوله من الكراكوزات في الترويج لشائعة فصل الناطقة بلسان، كما فصلوا التي قبلها، وهي أيضًا استقالت بنفسها لأنها لم تستطع تحمّل ثانية واحدة قبالته بعد!

ولكن، وفي قرارة نفسه، كان يتمنى مدير الجمعية أن تتراجع الناطقة عن قرارها بالاستقالة، وأن يكون ما قالته عن رغبتها في العمل في جمعية أخرى منافسة ليس إلا تهويلات تسعى من ورائها لزيادة في المعاش- ولو كان الأمر كذلك لزادها الآن ألف شيكل لا يتقصون شيكلاً واحدًا! المهم أن تكون هذه الأقوال شائعات ليس إلا. وهو في رحابة صدره وقدرته على العفو سينسى استقالتها وسيتحتضنها وهي عائدة وسيكرمها ويرفعها إلى أعلى مرتبة، إلى حين اندلاع الأزمة القادمة، ليبدأ التحريض عليها ثانية كما يتقن هو أن يفعل، دونًا عن المليون وثلاثمئة ألف فلسطيني عند الأقلية العربية الصامدة.

(4)

عندما صارت الساعة السابعة والنصف صباحًا كان مدير الجمعية قد انتهى من “فصفصة” الجريدة كما يحبّ أن يفعل، وفي رأسه قائمة مهمات يجب تسجيلها على الفور. فقام من مكانه ودخل غرفة المكتب، وفتحَ صفحة أيميل جديدة في الحاسوب ثم كتب:

“- الاتصال بسكرتيرة رئيس تحرير “هآرتس” والاستفسار عن الاجتماع به؛

– الاتصال بسكرتيرة السفارة الأمريكية والاستفسار عن اللقاء المخطط مع الجالية اليهودية التقدمية في أمريكا، لتجنيد أموال لملعب كرة القدم في سخنين؛

– الاتصال بعضو الكنيست المقرب واتخاذ قرار بشأن الوظيفتيْن الجديدتيْن الشاغرتيْن والاتفاق على مرشحيْن ملائميْن من الحزب؛

– حجز غرفة في الفندق المفضل لبعد الظهر؛

– الدعوة لاجتماع طاقم غدًا لتلخيص الاجتماعات المثمرة في جنيف؛ يمكن دعوة عضو الكنيست أيضًا؛

– تحضير ضيافة لائقة للاجتماع؛

– الدعوة لاجتماع للهيئة الادارية للتداول في أزمة التنافس على رضى المُموّلين.”

أنهى مدير الجمعية صياغة الرسالة وبعثها في الأيميل إلى نفسه ليطبعها في المكتب حين يصل ويشرف على تنفيذها.

تراجع في كرسي المدير الأسود الكبير إلى الوراء وحاول ألا يفكر وهو مغمض عينيه بردفيّ مُجندة الأموال المدوّريْن والشابيْن، وهما يقفزان أمامه في سنتهما الثالثة والعشرين. لم يشعر بزوجته التي استفاقت ودخلت المكتب واقتربت منه واحتضنته من الخلف وقبّلته بحرارة. تفاجأ من هذه الخطوة إلا أنه تعاون معها، فأمسك بيديها وقبل إحداهما بنهم مفتعل.

وقد حاول جاهدًا ألا ينفجر غيظًا وغضبًا حين همست في أذنه: “شكرًا حبيبي على زجاجة العطر الفاخر. هل كنت تخبئها في محفظة السفر لتفاجئني؟”…

(نشرت  هذه المادة في صحيفة المدينة االحيفاوية ,آذار 2005)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *