أميرة تعسة

كان منظر أميرة مروعًا. شاحبة والسواد تحت عينيها جعل وجهها أقرب ما يكون إلى التعاسة. انشطر قلبه لرؤيتها وللمرة الأولى منذ سنين شعر بحاجة ماسّة إلى البكاء. ما الذي يفعله بحق السماء؟.. ماذا حلّ به في الفترة الأخيرة؟ لماذا سبب الألم لكل من يحبهم ويعزّهم؟.. أيّ عفريت سكنه؟ جلسا في قسم المدخنين. لم يستطع اقناع أميرة بتناول شيء من الطعام فطلبا فنجاني قهوة.

“هل تحدث إليك عباس مؤخرًا؟”

“البارحة. كان مشهدًا مؤلمًا. تمنيت للحظات لو يقتلني ويريحني. ما الذي فعلناه به؟”

“إهدئي أميرة، أرجوك، تعالي نتماسك أعصابنا.”

إنها تبكي. سيبكي هو بعد لحظات. عليه أن يتماسك.

“لم أجد بدًا من إطلاعه على الحقيقة. عبلة عرفت بالأمر وكان من المؤكد أنها ستخبره. أردت أن يعرف مني وليس منها.”

وضع السّكر في فنجانه ورشف رشفة خفيفة. كانت هي مشغولة بمسح دموعها ومحاولة التماسك. يودّ لو يحتضنها لساعة. أميرة العزيزة.

“ماذا ستفعلين الآن؟.. هل ستتكلمين معه؟”

“إنه يكرهني”، عاودت البكاء، “يكرهني من كل قلبه.”

“من الطبيعي جدًا أن يشعر هكذا. أعطه فترة ليهدأ.”

“ولكنه لا يكرهك أنتَ. ألسنا شريكين فيما حصل؟”

“بلى، بلى.. هناك أمور من الصعب فهمها.”

“نعم، هناك أمور من الصعب فهمها…”

ربما عليه أن يختلي بنفسه لبعض الوقت. يرسم مثلا. لقد نسي أنه يرسم ونسي أنّ الرسم يهدئه. سيرسم هذه الليلة وسيسحب خيط الهاتف من الحائط. بل ربما عليه أن يبقى مع أميرة. هذه الليلة على الأقل.

“تعالي إليّ هذه الليلة.”

“لا أريد. طلبت لقاءك لأخبرك بأني أودّ قطع علاقتنا نهائيًا.”

“لا، هذا غير ممكن الآن. علينا أن نبقى سوية ريثما تهدأ الأمور.”

“الأمور لن تهدأ. ما حصل حصل. لا أرى أية جدوى في الاستمرار في الكذبة الكبيرة.”

“أية كذبة؟”

“أنا وأنت.”

“عمّ تتحدثين؟”

“عن استغلالك لي، أنتَ لم تحبني يومًا، كنت تستغلني لشهواتك فقط.”

“أميرة، لا تدعي الأمور تشوش قدرتك على التفكير. أنا لم أستغلك يومًا.”

“بل فعلتَ!”

“ما كان بيننا كان بالاتفاق وبالوعي التام لاستحالة حدوث شيء غير الذي حدث.”

“غير الجنس تقصد..”

“ولِمَ لا، أليس هذا ما جمعنا؟”

“ربما.. ولكنك لا تفكر بما قد يكون حدث خلال هذه الفترة.”

“مثل ماذا؟”

“أنني وقعت في حبّك، مثلا..”

“أنت مبلبلة فقط. أنت لم تحبيني للحظة.”

“وكيف لك أن تعرف؟”

“لأنك تحبين عباس.”

“عباس..”

“نعم، عباس. كل ما في الأمر أنّ الأمور لم تبقَ سرية. ولا تنسي أنّ اقتراب موعد الزواج أدخلك في ضغط كبير. ما كنت تحسبينه توقفك عن حبّ عباس كان مجرد هروب مرحليّ من أمر تخشينه، تمامًا كما يفعل سائر البشر.”

“ولماذا واصلتَ لقائي إذا كنت تعلم أنني أحبّ عباس؟”

“هذا سؤال معقد. لا أعتقد أنّ بوسعي الإجابة عنه.”

“هكذا أنت، تتهرب من الشيء بتعقيده.”

“ليس هناك ما أتهرب منه الآن.”

“لا تنكر أنك تودّ التهرب مني.”

“ولِمَ أتهرّب منك؟.. أنا ما زلت أودّ البقاء معك.”

“وممارسة الجنس معي.”

“أتركي الجنس الآن.. لست حيوانًا بهذا القدر.”

“يمكنك أن تتفاجأ يومًا..”

“تعالي نهدأ قليلاً.”

إرتشف من فنجانه قليلا. ارتشفت هي أيضًا وأشعلت سيجارة. إنها المرة الاولى منذ زمن بعيد لا يشاطرها فيها السيجارة. أشعل واحدة لنفسه. الأمر أصعب مما تخيّل.. وماذا تخيّل أصلاً؟.. أن ترتمي في أحضانه وتبحث عن العزاء في شفتيه؟.. متى يكفّ عن الغرور الذي يتملكه في المواقف الصعبة؟ ليكن صادقًا مع نفسه حتى النهاية ولو لمرة واحدة. أميرة على حق. يمكنه أن يكتشف بسهولة أنه حيوان.

“أعذرني سمير، أنا منفعلة ومكتئبة جدًا. لم أقصد تجريحك أبدًا.”

“لا عليكِ، قولي ما شئتِ، فالأرجح أنك على حق.”

صمت. لقد هدأت الآن قليلا. هل يعود ويدعوها إليه الليلة؟.. ولكن ليليان موجودة عنده ومن المؤكد أنها ستسأله عنها. من الافضل أن يذهب هو إليها. وماذا لو كانت سلمى شريكتها موجودة في الشقة. من المؤكد أنها ستكون.

“هل ما زلت ترغب في قدومي إليك الليلة؟”

“بالطبع. بسرور. سأعدّ لك الطبق الذي تحبينه.”

إبتسمت قليلا. ربما هي تحبّه في النهاية؟.. أتكون قد وقعت في حبه؟”

“ولكن ليليان ستكون عندك.”

“نعم.”

“هل ما زلتَ تصرّ على أنّ لا شيء يحدث بينك وبينها؟”

“نعم. ليليان مجرد صديقة في مأزق. أحسست بأنّ من واجبي مساعدتها، ليس إلا.”

“وهل ستبقى عندك فترة طويلة؟”

“لا أدري، ريثما تجد مكانا تسكنه.”

“وماذا حلّ بعائلتها؟”

“من المفروض أن يعودوا جميعًا إلى روسيا هذا المساء.”

“ربما من الأفضل ألا آتي إليكَ.”

“لا تقولي هذا، سيكون جيدًا. فرنسا ستكتسح كرواتيا هذه الليلة.”

ابتسمتْ. كان بامكانه الشعور بالهدوء الذي سرى في داخلها. أصبح بمقدورها الابتسام ولم تعد سلبية على الأقل.

“ماذا لو تأتي أنتَ إليّ؟”

“وسلمى؟”

“سلمى في القرية.”

“ممكن أيضًا. سآتي في حدود الثامنة. سأجلب نبيذًا جيدًا وسنعدّ صينية خضار ودجاج بالفرن. سيكون جيدًا.”

“أنت لا تتوقف عن التفكير بالطعام.”

“بالطعام الجيد، وهناك فرق شاسع.”

“دعني الآن من تجلياتك التنظيرية.”

“حسنًا، ليكن.”

في المتحف وجد بلاغين بانتظاره عند المدخل: “جولي. إتصل بي”؛ “د. حكيم، اتصل بي بأسرع وقت”. بمن يتصل أولا؟.. جولي لا شك تود التقاءه، ربما لشأن يتعلق بمعرضه وربما لشأن يتعلق بغرفتها في الفندق. الدال نقطة ابن الزانية يودّ الحديث إليه لا شكّ عن “السيرك” وعن مرڤت. من أين سيأتي بالقوة الكافية للتعامل مع هذيْن الأمريْن؟.. ألا يكفيه ما يحصل له؟ ولكنه من جهة أخرى يودّ بيع المعرض بشدّة ويودّ معرفة ما حلّ بسلسلة “السيرك”.

“أهلا سمير، أين اختفيت؟”

“بعض المشاكل فقط. كيف الحال؟”

“مشتاقة. ألن نتقابل؟”

“بسرور. ولكن ليس اليوم.”

“تعالَ نتفق على الغد. في السابعة مثلاً.”

“لا، لا، لا أفضل الالتزام بساعة معينة. دعيني أتصل بك غدًا.”

“في الأحلام. لن أتركك قبل الاتفاق على ساعة ومكان. فأنت حتى عندما تتفق لا تأتي.”

“جولي، أنتِ لم تنسي ذلك”-

“ليس من السهل أن ينسى المرء تجاهل شخص عزيز له.”

“لم يكن تجاهلا، صدقيني، انشغال طارئ فقط. ثم.. ألم أعوّضك عن التأخير؟”

“أيها الشقيّ. إذًا فلنتفق على السابعة مساءً.”

“حسنًا ليكُن. أين؟”

“عندي، في الفندق. سأدعوك إلى العشاء.”

“أيّ محظوظ أنا.”

“إلى اللقاء مؤقتًا.”

“أهلاً سمير، أين اختفيت؟”

“اختفيت؟.. لقد كنت معك البارحة، أتذكر؟”

“نعم، نعم، ولكنك تركتني مع مرڤت وذهبت.”

“وهل كنت تتوقع مني أن أبقى؟.. هل كانت ستتكلم عن الموضوع وأنا جالس؟”

“معك حق، عزيزي، معك حق. متى نلتقي؟”

“لا أعرف. اليوم وغدًا مستحيل.”

“الآن.”

“هل نسيت أنني أعمل بالصدفة؟”

“دعكَ من هذا الهراء.. هل تؤمن حقا بأنّ ما تقوم به عندك هو عمل؟”

“لن أغضب منك مهما حاولت.”

“أنا جدّيّ جدًا.. على كلّ حال سأتصل بك غدًا صباحًا. إلى اللقاء.”

حسنًا. إنه جائع الآن. الساعة توشك على الثالثة وهو لم يتناول شيئا يُذكر. ماذا سيفعل الآن؟.. بدا له العمل الآن سخيفًا وغير ذي جدوى. ربما كان الدال نقطة ابن الزانية مُحقا؛ فما الذي يفعله هو على أيّ حال؟.. ينظم المعارض الفنية لبضع مئات من أغنياء حيفا ولبضع عشرات من طلاب الفن؟.. ماذا لو ذهب إلى البيت الآن؟.. من سيشعر بغيابه؟.. المعرض سيُعرض بأيّ شكل وحتى وإن عُرض فانه لن يحلّ مشكلة البطالة ولن يُخفّض سعر الخبز. هو يقسو على نفسه قليلاً. هل سيجلد ذاته الآن؟.. لا، بالطبع لا. سيذهب إلى البيت الآن، سينام ملء عينيه. سيستيقظ في المساء، سيستحمّ، سيعدّ لنفسه بيضًا مقليًا بزيت الزيتون وسيرشّ الزعتر والزيت على صحن اللبنة. أما جبنة الماعز التي جلبها من أم حنا في القرية فسيُحمّرها قليلا حتى تنتشر تلك الرائحة التي لا تُوصَف. بعدها سيتمدّد على الكنبة الكبيرة أمام التلفاز وسيستلذّ برؤية فرنسا تلتهم الكرواتيين من دون ملح.

وماذا مع أميرة؟.. ماذا مع ليليان؟.. غاص عميقًا في المقعد الجلديّ الكبير واستدار إلى الشباك. الشارع مليء بالسيارات والناس والحركة. كلّ شيء يسير كالعادة والشارات الضوئية تتنقل بين الأحمر والأصفر والأخضر، كالعادة. الكهل السكير يقتعد المقعد الخشبي أمام باحة المتحف، كالعادة. بطء وملل وخمول. يمكنه أن ينام الآن لو أراد. ولكنه لن ينام في العمل. وماذا لو غفا لساعة أو أقلّ، سيستعيد تركيزه بلا شك. لا، سيستدير فورًا وسيعود إلى المعرض الجّديد ومشاكله. سيستدير الآن. الشارة تتبدل للأحمر. السيارات تقف. سيستدير بعد مضيّها قدمًا. ربما سيغلق عينيه لبرهة. أخضر. سيستدير الآن. لبرهة فقط، سيغلق عينيه. لبرهة فقط.

(إلى صفحة الرواية)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *