أفضال الرقم 5
وهكذا، تطوّرت علاقة حميمة بيني وبين الرقم 5، تتعلق بخلع الحزام وشدّ الحزام والذهاب إلى غرف الاستضافة ذات النجوم الخمس، فطرأ في بالي أنّ تصنيف المشبوهين بالرقم 5 يأتي من فنادق النجوم الخمس، حيث يعتذرون لك بعد أن يدسّ حفيد بن غوريون ذراعه الأمنية في مؤخرتك العربية
قمر في الصباح بين اليونان وبلجيكا. قبل تصوير هذه الصورة بدقائق انتهيت من تكتكة هذه المقالة العفريتية!
علاء حليحل
لم أتوقع يومًا في حياتي أن أجلس وأكتب ما يشبه الإطراء للأمن الإسرائيلي في مطار بن غوريون الدولي في تل أبيب. فمنذ سنين، حين بدأت بالسفر “حِزّكْ مِزّكْ” وعلى حساب الجماهير، بدأت أنتبه إلى الرقم الذي يلصقونه على حقائبي في أول الطابور الأمني حين يسألونك عن اسمك والبلد الذي تأتي منه وإذا ما كان الشيخ أسامة بن لادن أهداك قنبلة صغيرة وجميلة. إنه الرقم 5. خمسة في عين اللي ما يصلي لعِجل الأمن الإسرائيلي!
وهكذا، تطوّرت علاقة حميمة بيني وبين الرقم 5، تتعلق بخلع الحزام وشدّ الحزام والذهاب إلى غرف الاستضافة ذات النجوم الخمس، ومن هنا طرأ في بالي أنّ تصنيف المشبوهين بالرقم 5 يأتي من فنادق النجوم الخمس، حيث لا ينسون أن يعتذروا لك على “الإزعاج”، بعد أن انتهى حفيد بن غوريون من دسّ ذراعه الأمنية في مؤخرتك العربية.
قبل سفرتين أو ثلاث اكتشفت أنّ الرقم 5 المحفوظ للعرب والأجانب المشبوهين (كوريين على شوية أفارقة وناشطي السلام الأجانب الذين يُقتلون تحت جرافات الاحتلال)، يمكن أن يعود ببعض الفوائد على شخص مثلي، ومن وقتها وأنا سعيد كل السّعادة بالأمن الإسرائيلي الحريص.
وكجميع الأمور الجيدة في الحياة حدث الأمر صدفة: قبل أكثر من سنة عدتُ من غرفة التشليح الجانبية وإذ برفيقة أمنية شاحبة ترافقني نحو التشيك إنْ، ثم تصحبني نحو كشك البيزنس كلاس. ازدردت لعابي وقلت: لا، لا، وابزنيساه! أنا أوكونومي يا شابة، جدي خالد مصطفى خليل حليحل كان أوكونومي وأبي محمود حليحل لا يزال أوكونومي صامدًا وابنتي الدشدوشة ستتولى شعلة الأوكونومي من بعدي. وفي أقلّ من دقيقة انتهت موظفة شركة الطيران من معاملاتي وبعث حقيبتي وحجز مكان سكناي في الهواء، ثم ودّعتني الأمنية الشاحبة بنظرة متعبة قائلة بأوتوماتيكية باردة: “طيساه نعيماه” (سفرة موفقة).
وقفت وفي يدي البوردينغ إياه، ونظرتُ إلى طابور العشرات الذي كان يتكوّم بحقارة أمام أكشاك الأوكونومي وقلت في سرّي ضاحكًا: إنتو زبالة!
بعدها اكتشفتُ أنّ السياسة الأمنية الجديدة في مطار جدّنا الأكبر تنبني مؤخرًا على مَكننة متطوّرة جدًا ومباعصة مكشوفة أقلّ بحق الأقلية الفلسطينية الصامدة في وطنها الذي لا وطن لنا سواه (سوى باريس أو برلين أو لندن). وفي السّفرة التالية رافقتني أمنية أخرى نحو كشك البيزنس وتكرّر المنوال، فأطلقت الموال، واكتشفت المَأال، فطورته بإجلال.
الآن مثلا وصلتُ في تطوير التقنية إلى أقصاها (بدأتُ بكتابة المادة في الساعة 5 صباحًا إلا ربعًا قبل البوردينغ بشربة سيجارة، على لابتوب أم الدشة اللهلوب الصغير). وصلت إلى المطار بتأخير نصف ساعة بسبب القطار اللعين الذي كان يتجشأ طيلة السكة، ووجدت نفسي أتذيّل طابورًا من أكثر من مئة مسافر يتكئون على نعاسهم ومحافظهم. وصلت الرفيقة الأمنية (كلهن صبايا!) وسألتني عن قنابل بن لادن، ثم طبعت على جوازي ومحافظي الرقم 5 المبارك، فسألتُ بعينيْن حزينتيْن مكتئبتيْن عبريّتيْن:
“أنا معي الرقم خمسة وأنت تعرفين أنّ هذا يعني فيا دي لاروزا تفتيشيًا، والقطار تأخر وأنا لا أريد أن تفوتني الطائرة… وأنت بالطبع لا تهون عليك العشرة بين أبناء العم وكرمى لجدنا إبراهيم الذي بدأ بكلّ تعريصة الشرق الأوسط: النجدة!!!” (بما معناه)
نظرت إليّ بتفهم ولكنه لم يكن كافيًا في نظري، فأردفتُ:
“نفسي شي مرة أفوت على الديوتي فري وأشتري عطر لزوجتي.” (هذه كذبة بيضاء طبعًا، فدُرج أم الدشة مليء بالكريمات والروائح العطرة، غنائم سفراتي العنيدة).
نظرت ابنة عمي الأمنية إليّ وألفيتها ترفع الحزام القماشي وتدعوني إلى اللحاق بها، فلحقت بها على الفور: تِكِلَمْ تِكِلَمْ تِكِلَمْ، مثلما ركب حمدان على الحصان.
وفي أقلّ من خمس ثوان (هذا الرقم العجيب) وجدتُ نفسي أمام الماكينة العملاقة التي تكوي محافظنا بأشعتها، أُخرج اللابتوت وكاميرا الصديق عصام داوود (كان لازم أحكيلك رفيق إني ماخد الكاميرا على بروكسل؟) وأتسفّع بالأشعة الفوق-إثنية مثل سائح كوبيّ فخور، ناظرًا إلى الطابور الطويل الذي تجاوزته للتوّ ولسان حالي يقول: إنتو زبالة!
وطبعًا، بعد فتح محفظتي والبحبشة فيها، وبعد أن رأى جميع مَن في المطار ألوان كلاسيني الزاهية، رافقتني ابنة عمي الأمنية إلى كشك البيزنس (والعضرا!). وفي أقلّ من 5 دقائق كنت في طريقي إلى محطة الفحص الأخيرة، حيث وجدتها فارغة لحسن حظّ الجميع. ولكنني في المرة السابقة وصلت هذه المحطة ووجدت مئاتٍ من الأمم، أشكال ألوان، تنتظر بفارغ الغضب دورها في المرور مرة أخرى في الكشف والتفتيش. وأصحاب اللصقات رقم 5 يعرفون جيدًا أنّ عليهم التوجّه إلى الطابور رقم 1 (أعتقد أنهم لم يُسمّوه رقم 5 من أجل التمويه؛ ولكن علينا يا مندلينا؟).
وهكذا لجأت وقتها إلى ذات الحيلة. توجهتُ إلى المسؤول الأمنيّ عن الطابور، بعد أن عرفت من لهجته واسمه أنه من أبناء طائفة بني معروف الأشاوس، فسألته بالعربية:
“معليش خيا، أنا معي رقم 5 وصرلن شي ساعة ونص ماسكين ريقي بالتفتيش (كذبة ليلكية)، بتقدر تساعدني بإشي عشان طيارتي رح تطير كمان 25 دقيقة؟”
نظر إليّ بتوجّس، ثم إلى البوردينغ، ثم إليّ، ثم بدأ التحقيق معي:
“من وين حظرتك؟”
“أنا ساكن في عكا.”
“بتعرف أحمد حليحل؟”
طبعًا من تشرَّف بمعرفة حمولتي العريقة يعرف أنّ هناك ما لا يقل عن 2345 “أحمد حليحل”، من دون أن نعدّ هؤلاء الأحمدات في مخيمات اللجوء في لبنان وسورية والأردن، وشوية طراطيش في أوروبا والبرازيل. ابتسمت مُهيئًا نفسي لنكتة عن حجم عائلتنا، ولكنه أكمل:
“تعلم معي في القدس. من الجش.”
“أيوه! مزبوط. ابن عمي…” (كذبة عنابية)
“تعال.”
لحقت به وأنا أشكر اللات والعزة أنّ أبناء الطائفة المعروفية يخدمون في الجيش ويُعيّنون مسؤولي نبطشيات في مطار مؤسِّس دولة اليهود. وما هي إلا ثوانٍ حتى كنت على رأس الطابور المؤدّي إلى جحيم دانتي الأمنيّ الأخير، وشعرتُ بأنظار الجميع من الخلف تنخر ظهري حقدًا وحسدًا، فتمتمتُ بيني وبين نفسي: أنا من جماعة الرقم 5، إنتو زبالة!
أمام رفّ الويسكي في الديوتي فري قررتُ ألا أشتري ” جاك دانيالز” هذه المرة (أنا بحبش الويسكي بس بحس إني لازم أشتري قنينة في الديوتي فري، زي كإنو واجب أو فرض). وهكذا سعيتُ للتغيير، ولكنني اكتشفت أنّ معلوماتي في الويسكي توازي صفرًا، فتذكرتُ على الفور ويسكي “جي بي” (أول سكرة ويسكي) و”شيفاس” (أول نتقة ويسكي)، نجمَيْ الطفولة والمراهقة، إلا أنني شعرتُ بأنّ مكانتي الأمنية من فئة الرقم 5 لا تسمح بمثل هذه الفظاظة الويسكية الشعبوية، فانتقيت قنينتين من ويسكي جيمسون الإيرلندي (تشجيعًا للمقاومة الإيرلندية)، من فئة خاصة بعلبة خاصة وسنوات تخمير غير عادية، واحدة لي والأخرى لأخي عامر، الذي سيشربها على الفطور لا شكّ.
إنها أفضال الرقم 5 علينا وعلى من شكّل أخطارًا أمنية مثلنا. لا تنسوْا هذه الأفضال. ما عليكم إلا أن تتفاءلوا خيرًا بهذا الرقم العجيب، وأن تبتسموا بحزن لهذه اللزقة الإسرائيلية وأنتم تتوجهون إلى ابنة العم الأمنية:
“معذرة، معي رقم 5 والطائرة ستقلع.”
ثم أقلعوا!
(نشرت هذه المادة في موقع قديتا بتاريخ 23 تشرين الثاني 2010)