مكتبتي المُتمنّعة

لم تعد متاعب الانتقال من بيت إلى آخر جديرة بالتأمل، خصوصًا لمن مرّ بهذه المعاناة أكثر من 8 مرات في حياته البالغة. فتعبئة الكراتين والأكياس وغربلة حياتكم لفئتين لا ثالث لهما (بأمر من قيادة الجبهة الداخلية): يبقى أو يُلقى. لا مكان للتردّد أبدًا، لا مكان للتأمل. يجب أن يكون القرار واضحًا بشأن ما يجب أن يُدخل إلى الكراتين والصناديق وبين ما سيُلقى به غير مأسوف على شبابه في حاوية النفايات الخضراء عند مدخل العمارة. C’est la vie، هذه هي الحياة.

لكنّ رَزم مكتبة كبيرة من الكتب ونقلها ليس بالأمر الهيّن، بل هو الأصعب من بين سائر الأمور في الانتقال إلى بيت جديد، والحاجة العملية، الباردة، الكمداء، لرزم حياتك (الأعمال الكاملة- حتى هنا) في كراتين ستُغلق في نهاية المطاف بـ “لزيق صدّام” البنيّ، ومن بعدها الطوفان (طوفان فعلي في الحمام الجديد). لكنّ المكتبة البيتية كائن عصيّ على الامتلاك والتملّك، يبتزّ منك صفنة لا نهائية تتعلق بالانتقال بعلاقتك معها من مرحلة “الطفو والعوم” إلى مرحلة التصنيف والترتيب. هذا انتقال مُميت لمن مرّ به، لمن لا يقوى على إنهاء قراءة كلّ الكتب التي على الرفوف ويخشى من وضع هذا الكتاب بالذات على رفٍّ قد يدخله في غياهب النسيان.

إنها أزمة هائلة، معركة مصيرية بينك وبين الذاكرة على اختلاف شعبها. الشعبة الأولى هي الذاكرة العينية للكتاب العينيّ: أين اشتريته، برفقة من، متى، لماذا، هل قرأته، هل غلافه جميل؟ الشعبة الثانية من الذاكرة هي الطريق التي قطعها الكتاب منذ شرائه وللآن: هل “ترنّخ” في كومة كتب على طاولة المكتب أم على “كوميدين” غرفة النوم أم نُسي في محفظة قديمة ألقي بها على رفٍّ علويّ في خزانة لا تُتفتح إلا نادرًا. الشعبة الثالثة في ذاكرة الكتاب تتعلق بمضمونه، وهذه لا تزيد أهمية بالمناسبة عن الذاكرتين الأخريين، كما يميل البعض للتفكير. الكتب في النهاية هي رفيق ومُجالس، وهو ليس بالضرورة “ابن ناس” دائمًا. المضمون ليس هامًا في غالب المرات، فغالبية الكتب –للأسف- مثيرة لخيبة الأمل. ما يهمّ هو كل هذه الخلطة والشعاب: هي التي يجب أن تقودك وأنت تملأ الكراتين بكلّ هذا الكمّ اللانهائيّ من الورق المُجلد.

الكتب أوراق مُجلّدة في أساسها، تتطلب مكانًا للعرض والتخزين. إنها مادة يومية، لها شكلها وأصول التعامل معها، مثل أيّ مادة أخرى في البيت (الصحون، ورق التواليت، المنافض). لكنها مادة عزيزة غالية. لو وضع أحدكم سيفًا على رقبتي فسأتنازل بسرور عن أكثر من 200 كتاب من مئات الكتب التي أصرّ على نقلها معي حيثما حللتُ. لكنّ لا أحد يسلط مثل هذا السيف عليّ، ولذلك أستمرّ بجرّ هذه الكتب الرديئة (يُنظر أعلاه: شعاب الذاكرة) والتبرّم منها مرة بعد أخرى. ولا شيء أجمل من التبرّم من الكتب، خصوصًا لدى الجدعان أبناء الجدعان الذين يعملون في نقل البيوت. ينظرون بغضب إلى عشرات الكراتين المكدّسة، برغم أنك شرحت للزعيم في المكالمة الهاتفية حجم الكتب وعدد كراتينها. لكنهم يُصرّون دائمًا على التبرّم باندهاش. مع الوقت طوّرت نوعًا من السادية الخجولة مع هؤلاء الجدعان، فلم أعد أشعر بتأنيب ضمير أيًّا كان بسبب ثقل الحمولة. لا بأس، فليشعروا قليلا بوطأة الكتب ومضامينها، تمامًا كما يشعر قارئها (أو شاريها). ومع الوقت صرت أتجاهل السؤال الأزليّ الذي يلفظه واحد منهم (وأحيانًا أكثر): هل قرأتَ كلّ هذه الكتب؟ الجواب لا طبعًا ولكنني أبتسم ابتسامة كاذبة مفادها: إحزر.

والحقيقة أنني لا أعرف شخصًا قرأ كلّ الكتب في مكتبته (هذا لا يعني أنه غير موجود في مكان ما). أن تقتني كتابًا لا يعني أن تقرأه بالضرورة. لو كانت القراءة هي الفعل المَرجوّ من هذه الصفقة المشكوك بجدواها لكانت المكتبة البلدية أو مكتبة الجامعة الملاذ الفوريّ. لكنّ شراء الكتب هو علامة اجتماعية فارقة. فعل الشراء هنا “خالص ونقيّ” وحاشا وكلا أن نتعامل مع على أنه Shopping بغيض مثل شراء المكياج أو العطور أو تبغ الأرجيلة. شراء الكتب هو نصف الفعل وأحيانًا الفعل كلّه في سياق الكتب التي لم تقرأها بعد. إنه إدمان خالص لا غبار عليه ولا سؤال: تشتري ما تيسّر (وما لا يتيسّر) لأنّ عليك أن تشتري هذا الكتاب، تمامًا كما يشعر مُحبّو الأحذية أمام حذاء جديد في الفاترينة. هم ونحن يتملّكنا الشعور ذاته: سنشعر بأننا ناقصون لو عدنا إلى بيوتنا من دون هذا الحذاء/الكتاب.

الكتاب بضاعة ككلّ البضائع، لكنها أكثر إثارة، خصوصًا عندما تملأ بها المكتبة الجديدة في الصالون الجديد. بمعنى: هل تروْن كم نحن مثقفون؟ وهذا فعل نُحسَد عليه، نحن معشر المدمنين على شراء الكتب، لأنّ لا أحد يملأ الصالون بالأحذية أو أحمر الشفاه أو الفساتين أو سيارات البي أم دبليو، رغم أنه قد ينافسنا مُدمنو شراء السّيديهات الموسيقية، أو من تبقى منهم، منذ تحوّل الألبومات إلى عدد غير كبير من الميغابايتس (لن أدخل في مسألة تحوّل الكتب أيضًا إلى كمية لا بأس بها من الميغابايتس، ومجرد التفكير للحظة أنه يمكن دحش كل كتبي الورقية في البيت في داخل كيندل أو آيبد واحد تثير القشعريرة في خلايا الزائدة الدودية). مع ذلك، نظلّ نحن، مُستنشقي رائحة الكتب الجديدة والقديمة، أصحاب الحظوظ الأوفر في العرض والاستعراض.

ثم مسألة الترتيب: حسب مواضيع، كُتاب، سنوات، دور نشر؟ كيف يرتبون مئات الكتب؟ هل تتخيلون مقدار الوقت الذي تحتاجونه لذلك؟ وهكذا، في لحظة صفاء وشجاعة نادريْن قررتُ: العشوائية هي الحلّ. لن تجدوا في مكتبتي اليوم أيّ منطق ولو بسيط في ترتيب الكتب. أخرجتها كما هي من الكراتين ووضعتها على الرفوف. الهمّ الوحيد الذي كان يشغلني أثناء “الترتيب” هو العثور على كتاب بالثخن الدقيق المطلوب لإغلاق صف من الكتب المتراصّة. أشعر بسعادة غامرة لأنني انتصرتُ على الحاجة للتريب والمنطق ووجدتُ نفسي أنثر الكتب كما ينثر الباذر بذاره، بلا انتقاء أو منطق ظاهر.

الآن أشعر بأنني أحبّ مكتبتي أكثر، فهي “إنسانية” أكثر، فوضوية، مُتمنّعة غضة، قد تحرق قبالها نصف ساعة وأكثر للعثور على كتاب تبحث عنه، لكنه وقت نوعيّ أنت بحاجة إليه لتعرف حجمك الطبيعيّ (الصغير الحقير) أمام كميات المعرفة اللا نهائية.

وفي النهاية، من يأبه لعدم العثور على كتاب ما يحتاجه؟ فأيّ كتاب أحتاجه موجود على الإنترنت بهيئة pdf!

(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 14 آب 2013)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *