لمَن هذا الباص؟

علاء حليحل

 لم يبدُ على المشاهدين الذين حضروا لمشاهدة مسرحية “الباص” في مهرجان المسرح الآخر في عكا المنتهي أخيرًا، أنهم كانوا مستعدين لما سيشاهدونه. خاصةً وأن موضوع المسرحية الرئيسي، الخوف من السفر في الباصات بسبب العمليات وعكس الواقع اليومي المُعاش في الدولة وفي المناطق المحتلة من خلال هذا الخوف، هو موضوع دراماتيكي، شائك ومليء بالشحنات العاطفية والسياسية. من هذه الناحية يمكن تسجيل نقطة كبيرة لصالح المسرحية ومبدعيها في التناول المغاير والمُجدد لهذا النوع من الجنون اليومي الذي يحياه الجميع، على الرغم من أن هذا التناول يتميّز بالكثير من النقصان والضعف- كما سيُفصل هنا.

المشكلة الأساسية التي تمنع مسرحية “الباص” من أن تكون عملا مُميّزًا ومنفردًا هي أن هذه المسرحية من دون هوية، تمامًا مثل العديد من أبطالها. وإذا كان إنعدام الهوية عند عدد من الشخصيات (الهوية بمفهومها “الورقي” عند الفلسطينيين، وبمفهومها العميق عند الشخصيات من عرب الداخل) هو إنعدام سياسي وإجتماعي عميق، فإن إنعدام الهوية المسيطر على المسرحية هو فني ومسرحي في جوهره وهو مسيء للمسرحية، وفي بعض المشاهد- مسيء جدًا.

القصة باختصار تروي عن شاب فلسطيني يئس من الحياة تحت الاحتلال والحصار وذهب إلى إسرائيل وركب باصًا ومعه محفظة كبيرة (من المفترض أنها قنبلة). في الباص العديد من الشخصيات: شابة عربية، روسي مهاجر، حريدي ويهودي شرقي وغيرهم. وتتحول السفرة في الباص إلى ما يشبه كل سفرة في هذه الأيام في أي باص إسرائيلي: نظرات الشك، التفتيشات، الهويات، السُحنات والشَحنات. في خضم كل هذا تتطور الحبكة إلى مسارات، بعضها غير مقنع، تتشابك مع قصة الشاب الفلسطيني (جواد عبد الغني) مع والده (مروان عوكل) ووالدته (وداد سرحان) وأصدقائه. الحديث عن الشهادة والاحتلال والقهر يختلط مع الباص الإسرائيلي الآخذ في الاختناق.

قد يكون بإمكان المشاهد المُتمرس (وربما العادي أيضًا) أن يلحظ ببعض من السهولة الجهد الإخراجي المميز (المخرج فؤاد عوض) المبذول في هذه المسرحية. هناك مشاهد ترقى خلال العرض إلى نتيجة إخراجية يمكن أن تضاهي الإنتاجات المسرحية الجيدة التي شاهدناها على الخشبات هنا. وهناك مشاهد أخرى تنحدر نحو ضياع فني غير مفهوم، حيث كان يُخيّل إليّ أحيانًا أن عوض تغيّب عن المراجعات في اليوم الذي عملوا فيه على تلك المشاهد! ولكن المشكلة في “الباص” ليست في الإخراج، بل في النص. وهذا يعيدنا إلى مشكلة هوية المسرحية.

إذا سلّمنا جدلاً بأن مؤلف المسرحية (أيمن إغبارية) كان يقصد كتابة مسرحية تنتهج “الكوميديا السوداء” منهجًا لها، فإنه لم يُفلح في هذه المهمة على الإطلاق. وحتى لو لم يكن هذا القصد، فإن النتيجة النهائية تشير إلى محاولة –ولو غير واعية- للضحك أو السخرية أو التهكم على أمور تثير الأيلام والسوداوية (هذا -بالأساس ومن دون التوسّع- تعريف الكوميديا السوداء). في خضم هذه المحاولة تراوحت مشاهد المسرحية المتتالية بين مشاهد عبثية (بعضها ممتاز) ومشاهد واقعية تراجيدية (غالبيتها مبتذلة) ومشاهد مسلية (غالبيتها حسنة) ومشاهد “بلاغية- خطابية” (جميعها سيئة). لا يمكن بالمرة بناء مسرحية متماسكة على هذا النمط من الكتابة. إذا كنت ساخرًا ومتهكمًا فكن كذلك طيلة الوقت. حتى في قمة المأساة عليك أن تكون ساخرًا، وإلا فإن “الكيتش” سيسيطر على ما تفعله- وهذا ما حدث في العديد من المشاهد في المسرحية. وإذا لم تكن ترغب في كل ذلك فاكتب مأساةً جديةً حقيقيةً.

من جهة أخرى هناك العديد من الأمور الأيجابية التي يمكن أن تُقال عن هذه المسرحية. فالإخراج، كما أسلفتُ، متين في بعضه وحسنٌ في غالبيته وسيء في بعضه، وينجح غالبًا في عكس رؤية مبلورة لطبيعة هذا العمل، التي يمكن طرح جودتها (الرؤية) للنقاش، ولكنها طُبقت في غالبية الوقت بسلاسة ووعي ومهنية. من نعى المخرج فؤاد عوض، مخرج “رأس المملوك جابر” (كمثال) الممتازة، فقد أخطأ. عوض أثبت في هذه المسرحية أن لديه ما يعطيه للمسرح الفلسطيني هنا وخسارة أنه دخل في سنتيه الأخيرتين في “الميدان” في دوامة الإدارة وتفاصيلها المُشلّة (له وللمسرح).

ومن ناحية الممثلين برز ثلاثة منهم على وجه الخصوص: جواد عبد الغني، محمود عكاشة وإياد شيتي. ثلاثتهم نجحوا في بناء حوارات مثمرة ومقنعة على طول المسرحية مع الشخصيات المُنبناة من خلال النص الإشكالي، ونجح عكاشة وشيتي في تطوير شخصيات كاريكاتورية كوميدية مصقولة ومقنعة إلى درجة الكوميديا غير المبتذلة (في غالبيتها). هذا بالاضافة إلى الموسيقى الممتازة (فراس روبي وليتو زلبرشطاين) التي ساعدت كثيرًا في بناء فضاء مسرحي جذاب ومقنع. وفي هذا السياق لا بد من تسجيل الإشكاليات الكبيرة من وراء إعتماد تقنية الرّاب في شخصية الراوي (محمود شلبي) لأنها غير مكتملة وغير مفهومة وغير جذابة بالمرة.

وكما أن المسرحية نفسها تعاني من إنفصام حاد في الشخصية، فإن الكتابة عنها أيضًا تتميز بهذه الصفة. فمن جهة يمكن التركيز على السلبيات بها والإعلان عنها كواحدة من أسوأ المسرحيات العربية التي أنتجت مؤخرًا، ومن جهة يمكن التغاضي عن هذه السيئات والتركيز على جوانبها الأيجابية، وبالتالي وصفها بمسرحية ناجحة وواعدة  ومتميّزة. ما سيحسم بين التوجهين هو العروض القادمة للمسرحية التي يجب ألا تتوقف بعد المهرجان.

“الباص” * تأليف: أيمن إغبارية * إعداد وتصميم وإخراج: فؤاد عوض * إنتاج: عادل أبو ريا، مسرح “الجوّال” * تمثيل: مروان عوكل، آمال قيس، جواد عبد الغني، خالد أبو علي، إياد شيتي، محمود عكاشة، وداد سرحان،  كمال شاهين، سامي شقور * موسيقى: فراس روبي وليتو زلبرشطاين * إضاءة: عفيف إدريس * ملابس: غصوب سرحان * رابّر: محمود شلبي

 (نشرت هذه المقالة في “فصل المقال”، تشرين الأول 2003)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *