لا طريق ثالث دائمًا/ حنين زعبي

كان الأمر سيكون أفضل لو انتهت “المعارك” أو أية تسمية تختارونها (مشكلة، إشكالية، صراع، نقاش، خلاف، اختلاف) بعِبر؛ فحتى لو انتهت بخسارةٍ ما، كنا على الأقل سنربح العبرة. لكنّ أسوأ “المعارك” هي تلك التي لا تنهي بعبر، ولا تنتهي بمراكمة ما في التجربة الإنسانية أو في المفاهيم الاجتماعية الجّامعة.

وبالتالي، فإنّ مقولة “الضربة التي لا تُميتك تزيدك قوة” هي مقولة ناقصة، أو على الأقل مشروطة، مشروطة بوجود عبرة ما، تكون هي مصدر القوة. وللأسف، ما جرى على أثر نشر علاء حليحل مقاله حول رمضان، هو مؤلم لأمريْن: أولاً، لأنّ ردة الفعل الدرامية التي أثارها هي تعبير عن مجتمع مأزوم، لم يذوّت بعد نقاشَ ما يثيره بهدوء، وهي بمثابة شهادة بؤس، حيث لم تستطع أحداث سياسية درامية ومصيرية مرّت علينا خلال السنتيْن الأخيرتيْن أن تثير ربع هذا الاهتمام.

ومؤلم ثانيا، وهو الأهم، أنها من نوع تلك “المعارك” التي لم تنتهِ بعِبر، ولم تستطِعْ أن تنتج أو تطوّر نوعًا جديدًا من التعاطي مع إشكالية جديدة، نوعًا ما، بل تمّ التعامل معها عبر اصطفافات قديمة لإشكاليات ومفاهيم قديمة وتقليدية، والأهم متصادمة: مفهوم حقّ التعبير مقابل مفهوم “مشاعر الناس”. وتم التعاطي مع هذه المفاهيم من منطلق اصطفافات تقليدية، لا تصلح لكلّ مقام ولا لكلّ مقال، فعَكَسَ النقاشُ الاصطفافَ التالي: التعامل مع حرية التعبير وكأنها حرية تخدم ليبراليين أو علمانيين دون غيرهم، والتعامل مع مشاعر الناس وكأنها مشاعر تخصّ المحافظين أو المتديّنين دون غيرهم.

ونسي الجميع في خضمّ ذلك، أنّ حرية التعبير تطالب بها الآن الحركات الإسلامية في العالم العربي، وأنها لا تعبّر عن مصلحة مقصورة لفئةٍ ما، ونسي آخرون أنّ المشاعر ليست حكرًا على المحافظين أو غير الليبراليين، وأنّ أكثر من تُستباح مشاعرهم ويتم الاستئناف على شرعية انتمائهم هم “الليبراليون” أو العلمانيون- أو سمُّهم ما شئتم.

والإشكالية جديدة، بمعنى أنه لا يكفي التعاطي معها بهذيْن المفهوميْن، وبمفهوم الاصطفاف بين: مع حرية التعبير ضد مشاعر الناس أو مع مشاعر الناس ضد حرية التعبير. لكن في نفس الوقت، وبرغم قصور ثنائية حرية التعبير- مشاعر الناس عن نقاش مقالة رمضان، نحن لا نستطيع تجاهل التناقض وضرورة الحسم بين هذين المفهومين على المستوى القيميّ النظريّ، حتى لو لم يكن هذا الحسم كافيًا لنقاش قضية المقال، مضمونه، مكان نشره وحرية نشره.

إنّ ثقافة الردّ التكفيرية القمعية التي أعقبت المقال، هي ما يجعل التأكيد على حقّ الفرد في التفكير والتعبير، ضرورة مُلحّة وأساسية، حتى من طرف أولئك الذين اعترضوا على بعض التعابير التي وردت. لأنّ تلك الثقافة فيها من العنف والقسوة والقمع ما هو أخطر بكثير من الإستعلاء والإستهتار اللذيْن اتهمت بهما مقالة حليحل. ثقافة الردّ التحريضية العنيفة هي أخطر، لسبب بسيط أنّ ما أثار الكثيرين في مقالة حليحل، لا يعدو أن يكون تعبيرًا أكاد أقول عرضيًا، لم يكُنْ من صلب مقولة المقال أو هدفه. لكنّ بعض الردود بأسلوبها وتعابيرها ولا محدودية عنفها وانتهازيّتها السياسية، تريد أن تفرض نفسها ورؤيتها كثقافة عامة.

وحتى ضمن هذا السياق، وبعيدًا عن الزّوبعة التي أثارها المقال، من الضّروري التأكيد على أنّ مشاعر أو “حساسيات” الكثيرين، هي تعبير مطاطيّ وبحكم تعريفها المطاطي غير الواضح هذا، لا يمكن إلا أن تكون أحد الأثمان التي تدفع في سبيل حرية التعبير كقيمة، وهي إحدى النتائج الحتمية لكل عملية تغيير اجتماعي في أيّ مجتمع.

كما أنّ طموح كل مجتمع واتجاه تطوّره هو في الحدّ من رقعة هذه “الحساسيات”، وليس في التعامل معها وكأنها مُعطًى ثابت، أو وكأنها قيمة بحدّ ذاتها. والأمر الأهمّ هو أنّ لهذا المفهوم متطلبات حقوقية، بمعنى أنه لا معنى لـ “حساسية المجتمع” في مجتمع لا يضع حقوق الفرد وحرياته في مركز احترامه، سوى مفهوم واحد، وهو الخوف من المجتمع، سواءً أكانت خوف الفرد المتدين في مجتمع متعصب للعلمانية، أو خوف الفرد العلماني في مجتمع متعصب للتدين.

الثقافة صريحة القمع، لا تحتاج حقيقة لمفهوم “مشاعر الناس”، فهي تكتفي بتحديد الحلال والحرام. من ناحية أخرى الثقافة مُموّهة القمع، هي التي تحتاج لمصطلح “مشاعر الناس”، وتستعمله بغير وجه حق كي تختبئ خلفه. لكن من يحتاج ويحق له استعمال مفهوم “مشاعر الناس” هم فقط أولئك الذين يتبنون القيم التي تعطي الحقّ للفرد بتحدّي تلك “المشاعر”.

رغم هذا التشديد والتثقيف الضرورييْن والهامّيْن على مبدأ وقيمة حرية التعبير، وعلى أنها تشمل تلك التعابير التي قد تسيء لمشاعر الكثيرين، إلا أننا لسنا بصدد قضية حرية تعبير، فقط، لأنّ النقاش المطروح هو على مضمون هذا المقال العينيّ، وعلى تعابير عرضية، جعلته يقف في صدام مباشر مع الوجدان الثقافي للمجتمع، ومع عناصر هوية أساسية مكونة له.

وفي الوقت الذي تحسم فيه حرية التعبير بشكل إيجابي السؤال: هل يحق لحليحل التعبير عن آرائه تلك، لا تستطيع هذه الحرية أن تحسم السؤال: هل يحق للمقال أن ينشر في “فصل المقال”، وذلك لأنّ “فصل المقال”، كحاملة لمشروع تغيير سياسي-اجتماعي، والذي هو بالتعريف مشروع أيديولوجي، غير محايدة أبدًا لأيّ مضمون سياسيّ واجتماعيّ. بمعنى آخر: حرية التعبير هي مفتاح السؤال إذا كنا نتحدث بصدد تعبير فرديّ، لكنّ مشاريع التغيير الاجتماعي-السياسي لا تستطيع أن تكتفي بهذا السؤال. وبالتالي، السّؤال الذي تطرحه “فصل المقال” على نفسها عندما تنشر أيّ مقال ليس “هل هي مع أو ضد حرية التعبير”، بل: “هل هي مع أو ضد المضمون العيني للمقال”؟

وقد طرحت قيادة “التجمع” على نفسها هذا السّؤال، ورأت في المقال صدامًا مباشرًا، ليس مع مشاعر الناس، كحالة مزاجية عاطفية، بل كحالة احترام لوجدان ثقافيّ، هي مُركّب من مركبات هوية المجتمع -ربما نستطيع اعتبارها شيفرات ثقافية- والذي هو مُركّب من مركّبات مشروع “التجمع”. ورمضان هنا ليس ركن العبادات الإسلامي فقط، وليس الفرض الديني للصائمين فقط، بل هو تلك الحالة الاجتماعية الثقافية المرتبطة بهوية الناس ووجدانهم، حتى لغير الصائمين، للمسيحيين وللعلمانيين.

هذا الاجتهاد الحزبي لا يرى أنّ النقاش يدور حول مضمون ثوريّ ما للمقال، أو حول نقاش فكريّ ما مُتحدّ يطرحه المقال، إذ لم يطالب المقال حقيقة بثورة في المفاهيم، ولم يطرح نقاشا جديا حول حقوق غير الصائمين مثلا، ولم يناقش حالة القمع التي يواجهها أحيانا غير الصائمين، بل يرى –هذا الاجتهاد للحزب- أنّ النقاش يدور حول أسلوب فُسِّر على أنه استهتار واستعلاء، ومن هنا اختار الحزب توضيح تحفظه ورفضه لتلك التعابير التي فُسِّرت كاستهزاء وكاستعلاء.

وللأسف، لم يقم “التجمع” بتوضيح وجه اعتراضه على المقال بشكل دقيق، وفسّر هذا الاعتراض من البعض على أنه اعتراض على مضمون مُتصادم مع مشاعر الجمهور، كما هو طبيعيّ أن يكون كل مضمون تغيير اجتماعي. هذا، مع أنه لم يكن المضمون الفكري هو وجه اعتراض “التجمع”، بل أسلوب بدا هازئًا ومستعليًا، بما يمكن أن نسميه “شيفرات ثقافية” لمجتمع، وأرجو أن أكون قد أجدت التسمية.

والفرق بين احترام هذه الشيفرات وعدم الاستهزاء بها، وبين نقاشها ونقاش محرماتها وكسر تلك المحرمات، يشبه الفرق بين احترام تدين المتدينين وبين نقاش تدينهم ومسلمات تدينهم، ويشبه الفرق بين احترام علمانية العلمانيين وبين نقاش علمانيتهم. احترام “شيفرات” وقناعات الآخرين لا علاقة لها أبدا بنقاش تلك القناعات وتحديها.

ما يؤسف في الأمر أنّ ما أغضب في المقال هو ما كان باستطاعة حليحل التنازل عنه بسهولة، وأنّ ما أغفله “التجمع”، هو ما كان يجب أن يشدّد على عدم التنازل عنه، وهو حق نقاش مُسلّمات آخرين، المنطلق من احترامها.

كل ما سبق وقلته، هو ما أردت أن أقوله، لكنه لا يلخص التحدي الذي يطرحه المقال وردة فعله. إذ لا أحد يعرّف التحدّي الذي يواجهه مجتمعنا على أنه عدم احترام شيفرات وجدانية، قد نفقد بفقدانها معظم أسس طروحاتنا السياسية، التي تستند على مركب الهوية في سيرورتها وديناميكيتها غير الثابتة. هنالك العديد من التحديات النظرية أو القادرة أن تطرح نفسها كتحدٍّ؛ لكن ما يهمنا هو التحديات المطروحة والمعاشة اليوم والآن وهنا، وما يلخص التحدي المعاش الآن وهنا، هو محاولات البتّ بأيّ موضوع إمّا عن طريق إغلاق باب النقاش وإما عن طريق تقليص حق التعبير إلى مجال الأفكار المهيمنة، أو عن طريق التحريض أو المسّ بسمعة الأفراد المشاركين في النقاش. هذه هي الأخطار والتحديات التي تواجه ثقافتنا العامة، والدليل أن ّغالبية وجه الاعتراض على ما جاء في مقال حليحل، أتى من أبواب نظرية بعيدة كلّ البعد عما أوردته هنا، وتحديدًا من أبواب الكفر- الايمان، ويصبّ في مصبّ كمّ الأفواه، وثقافة الإسكات بالقوة وبالتكفير.

في النهاية أقول، إنّ الحرص على الهيبة الثقافية لأيّ مجتمع، والتي هي حصانة وجدانية، نحتاجها نحن أكثر من غيرنا، كمركّب أساسيّ، ليس فقط في الهوية، وإنما وأيضا في مواجهة التحديات السياسية وتحديات الهيمنة الخارجية. ويجب ألا يخفى عنا أنّ الحصانة الوجدانية هذه، بحاجة بدورها لحصانة من متطرفيها ومن عمليات ومسارات تحجر ذاتيّ، هي خطر عليها، ليس أقلّ من خطر محاولات هدمها.

بالتالي، أمام “التجمع” مسار شاق، ليميّز فيه، وليثقف كوادره وجمهوره ومجتمعه، على الفرق بين احترام الشيفرات الثقافية لأيّ مجتمع، وبين نقاش مضامينها وحتى تحديها أو طرح بدائل لها. وعلى “التجمع” أن يحذر، وأن يحذّر كوادره، من مطاطية وغوغائية مفهوم “مشاعر الناس”، الذي قد لا يعني شيئا خارجا عن مفهوم الهيمنة الثقافية التي تناقض الكثير من القيم والمفاهيم التي تناقض مشروع “التجمع”.

حرية المعتقد، حرية التعبير، حق الفرد في تحدّي مُسلّمات، رصانة وهدوء النقاش ولا عنفه، الابتعاد عن أساليب قامعة أو تحريضية أو عقابية، بناء شعور الانتماء ليس وفق أحادية الاجتهاد في هذا الانتماء، إنما وفق تعددية الاجتهاد فيه- هي كلها الحصانة التي تحتاجها هويتنا ووجداننا الثقافي. كما أنّ قدرة هويتنا ووجداننا الثقافي على تحمّل النقد، هي دالة لقوة هذا الوجدان وثقته بنفسه.

 (نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 24 أيلول 2008)

 

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *