لا تُحايدْ
من شاهد برنامج شؤون الساعة “لندن وكرشنباوم” على القناة العاشرة، مساء أمس الأول الأربعاء، كان بمقدوره أن يتيقن مما يعنيه واحد من الشعارات/العبارات/الكليشيهات التي تتردّد بين أوساطنا وظهرانينا، من مرة إلى مرة: “سقط القناع” (ومصدرها من القصيدة الشهيرة “مديح الظل العالي” لمحمود درويش: سقط القناع عن القناع عن القناع). فأحد مُقدّميْ البرنامج، موطي كرشنباوم، استلّ حقيقته التي يحاول إخفاءها من وراء ليبرالية مفتعلة، وهاجم الصحافي إلياس كرّام، مراسل قناة “الجزيرة”، في خلال نقاش حول قرار وزارة الخارجية الإسرائيلية فرض مقاطعة على القناة “بسبب مواقفها العدائية لإسرائيل”، وكأنّ “الجزيرة” تعمل في وزارة الخارجية الإسرائيلية، وها هم يرسلون لها إنذارًا أول قبل طردها من السلك الدبلوماسي الصهيوني.
(لاحقًا، اتضح في خبر نشرته “هآرتس”، أمس الخميس، أنّ وزارة الخارجية الإسرائيلية والوزيرة فيها، تسيبي ليفني، تفاجأوا من هذا “القرار”، وبعد البحث والتنقيب اتضح أن نائب ليفني، مجلي وهبة، هو الذي بادر لحملة المقاطعة، “على شور راسه”. أم محمود العزيزة قالت ساعتها معلقة بسخرية: أكيد هو غاضب لأنهم لا يجرون معه مقابلات كما في السابق.)
وبدا لافتًا أنّ صبر كرشنباوم عيلَ منذ زمن، ربما منذ الحرب الأخيرة على لبنان، وهذه ليست المرة الأولى التي ينفلت فيها غضبه القبلي المجند الأهوج على عربي في برنامجه؛ فخلال الحرب المذكورة انفلت كرشنباوم أيضًا في وجه النائب محمد بركة، في حمية حربية كانت تبشر –لو طالت- بلينش تلفزيوني دمويّ. وها هو ينفلت في لينش تلفزيوني جديد ضد كرّام، ويبدو من خلال صراخه أنه ليس إلا “زعلان” من “الجزيرة” لأسبابه الخاصة؛ إذ أنه في حمية الصراخ نبح باتجاه كرّام: “أنا كنت في مكاتب “الجزيرة” في الدوحة ولم يتحدث إليّ أحد (لأنه إسرائيلي)”!! مسكين. لو كنا نعرف لطلبنا من جميل عازر أن يعزمه على قهوة عربية.
من هو الليبرالي؟
ما يحدث في برنامج “لندن وكرشنباوم” خطير في الحقيقة: فصورة البرنامج أمام الناس هي أنه ليبرالي ومنفتح ومغاير، بينما يتضح في لحظات الحقيقة أنه برنامج إخباري مُجند، كغالبية الإعلام الإسرائيلي. كان ذاك يارون لندن (الصحافي المخضرم، وليس محقق الشاباك الذي لاحق د. عزمي بشارة) الذي كتب في “يديعوت أحرونوت” عشية مجازر غزة الأخيرة، مقالة فاشية تنضح دماءً، ليعود بعدها للمثول أمام الكاميرا الدافئة في الأستوديو، ينعم هو وكرشنباوم بدفء شيخوختيهما “الرزينتين”.
ما يثير الغضب حقًا في كل ما يحدث مع قناة “الجزيرة” هو النفاق والتلوّن المخزيان اللذان يميّزان تعامل الإعلام الإسرائيلي مع هذه القناة. فأكذوبة “الإعلام الموضوعي” سقطت ودالت في مزابل التاريخ منذ عقود، وما زال أبناء عمنا يمارسون إعلامهم المُجند من جهة ويصرخون باتجاه العرب: إعلامكم مُجنّد. كأنّ تسفيكا يحزقيلي وشمعون شيفر موضوعيان ويغضبان على إلياس كرام لأنه ليس كذلك. هذا هراء! لا يوجد صحافي حقيقي (التعميم من عندي وغير مُلزم لأحد) من دون أجندة: إذا كنتَ صحافيًا في منطقة صراع لا مانع من تأخذ طـرفًا في الصراع، ولكن لا تختبئ وراء موضوعية مفتعلة، لأنك عندها ستصير كاذبًا ونصابًا رخيصًا؛ إذا كنتَ صحافيًا في مجال الترفيه والـ “بيـز شو” لا تخجل من أجندتك ودافع عنها بكل ما أوتيت، فهذه هي الأجندة التي اخترتها وأنت مطالب بتطبيقها بأفضل شكل؛ لا يمكن للصحافي أن يختبئ وراء وهم بأنه “مش لاعب” أو أنه “مخصنيش خيا، أنا أمم متحدة”. من يحلم بوظيفة في مبنى الأمم المتحدة في نيويورك عليه الدخول إلى موقع www.un.org وتنزيل طلب العمل في خانة “وظائف” وإرسالها إلى مكتب القوى العاملة هناك.
حفاظًا على البيئة
هذه رغبة ودعوة بعدم الخوف من أن يكون المرء صحافيًا مُتجنِّدًا (تختلف عن “مُجنَّد” اختلافا جوهريا وكبيرًا- ولكن ليس هنا المجال والمكان لفتح هذه النافذة في هذه العجالة)، ولكن عليه أن يلتزم بأمريْن أساسييْن لا يمكن التخلي عنهما: أن لا يختبئ وراء “موضوعية” مفتعلة غير واقعية فيصير محتالا على جمهوره؛ وعليه أن يمتنع عن تزوير الواقع وتشويهه من أجل دعم أجندته. القرائن تدعم حجتك؟ أنشرها على الملأ ودافع عنها حتى آخر قطرة حبر؛ القرائن ضدك؟ حاسب نفسك وجدد إيماناتك ولا تخجل من الاعتراف بخسارة معركة في هذه الحرب الطويلة.
الإعلام الإسرائيلي لا يريد أن يفهم هذا. يحلو لليهودي الأبيض أن يستعلي على السُّود المتخلفين، الحفاة العراة، بالتلويح بحجج الديمقراطية السخيفة، مُتناسين أنّه لا إعلام حياديًا حقيقيًا في أيّ نظام- ديمقراطيًَا أكان أم غير ديمقراطي. وهنا على مراسلي “الجزيرة” والقيّمين عليها أن يتوقفوا عن محاولات التبرير والدفاع عن النفس بأنهم “موضوعيون” و”حـياديون”؛ أولا، هـذا غير صحيح، وثانيًا، هذا غير مطلوب. على “الجزيرة” ألا تبث الأكاذيب والتحريضات التشويهية، هذا واضح وحيوي، ولكن عليها ألا تخجل من ميلها الطبيعي والفطري والمطلوب لقتلى غزة.
غزة وبيروت وبغداد والقاهرة وعدن هي البيئة الطبيعية لقناة “الجزيرة” وليست تل أبيب. ما الداعي لمحاولة دحض هذه البديهيات؟ هل نشعر بالنقص أمام كرشنباوم ومجلي وهبة؟ فليتفضلوا، وليتعاملوا مع القاهرة وبيروت على أنهما بيئتهما الطبيعية، بدلا من باريس ونيويورك.
(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 14 آذار 2008)