على كده تعرف محمد؟

إذا لم تكن القاهرة (مصر) أم الدنيا، فهي لا شكّ خالتها!

دبيبُ البشر الزاحف في كل جسدك يعيد إحياء الخلايا الخاملة التي تخدّرت بفعل عناوين “واي نت” والفقرات الدعائية في “عروتس 2” (القناة الثانية). بعد ساعتين من وصولك القاهرة واجتيازك لبوابات الأمن في المطار تشعر بأنّ قوة ما ألقت بك في أحضان هذه المدينة العملاقة، فتشمّ عرقها وتتُوه في وسخها وفوضاها، ولكنكَ رغم كلّ شيءٍ تلقي رأسك في حضنها وتستمع إلى الأهزوجة الجميلة التي تغنيها لك، 24 ساعة متواصلة، بلا كسل أو ملل.

إنها القاهرة، أكبر مدينة في العالم العربي، ومن أكبر مدن العالم: 30 مليون إنسان! عليكَ أن تكون هناك، في ميدان طلعت حرب، عند تمثال ابراهيم باشا، في ساعات الزحام اللانهائية، كي تفهم حتى النهاية عبقرية النكتة السريعة التي سمعتَها في طفولتك: “قاللو: حضرتك من القاهرة؟.. قاللو: أيوه. قاللو: على كده تعرف محمد”؟

كوشري

كان الجدال حاميًا بيني وبين مرافقيّ، حول طبيعة المواد التي يُصنع منها “الكوشري”، وقد ازدادت السخرية والاستنكار حين قلت إنني أعتقد أنها مصنوعة من المعكرونة، حين أنقذني سائق التاكسي من ورطتي: الكوشري يتعمل مِ الحمص والمعكرونة، وقد أضاف مُركّبًا آخر نسيته الآن. وفي النهاية لم آكل “كوشري”؛ فالشائعات تروي عن الكثيرين ممن أتوا أرض الكنانة ومرضوا من أكلها ومائها، فـ “انسهلوا”، وقضوا فترة إجازتهم في الفراش، يروحون ويجيئون بين السرير والحمام (وأنا لم أفهم بعد لماذا لا يفترشون أرض الحمام فيوفرون على أنفسهم عناء الشحشطة والبهدلة).

ولكنني أعتقد أنّ هذه القصص اخترعها “عرب إسرائيل” (وأنا لم أقل فلسطينيي الداخل أو عرب 48، عنوة وعن قصد) كي يقولوا في النص الخبيء (سَب تكست) لكلامهم: عزا، إحنا أنضف خيّا. أي أنّ المليون عربي عندنا، الذين كانوا يعيشون حتى قبل 10 سنوات في مستنقعات المجاري في شوارع قراهم وبجانب بيوتهم، أنظف وأرقى من المصريين، ومَثلنا في هذا كمثل “القرعا اللي بتهت بشعر بنت أختها”، حيث أننا نفتخر بالعمران والحضارة في إسرائيل، وهما إن وُجدا أصلا في دولة الموشافيم والخضيرة ونتانيا، فهما ليسا من حصتنا ولسنا من جلبهما أصلا.

لماذا كل هذا الغضب؟؟ لأنني لم آكل “كوشري”، مع أنني كنت مصممًا على ذلك، كثاني أهم هدف من الزيارة الخاطفة للقاهرة!

خير جليس… يحتضر

والسبب الأول والأهم هو زيارة معرض القاهرة الدولي للكتاب، وهو بحق معرض هائل، كبير، مترامي الأطراف، له أول بلا آخر، وهو بئر بلا قرار، تتسّع للكتب وللمباني ولخلق الله الكثيرين، الذين اختاروا أن يقضوا يوم إجازتهم (الجمعة) في المعرض، يتفرجون ويشترون ويأكلون ويتلذذون بشمس الشتاء القاهرية (جِدوا لي عربيًا واحدًا من هنا يقضي إجازته في معرض للكتب!). وقد انشغل الناشرون الذين التقيتهم بقضايا مصادرة الكتب (أو “ضياعها” في الشحن، كما يقول المنظمون) وبأنّ أحوال المعرض التنظيمية من سيء إلى أسوأ.

والكثيرون يرون أنّ تحوّل المعرض الدولي الشهير إلى مركز للكتب السّلفية الإسلامية، على حساب العلم والأدب، هو آفة سببها الحكومة والإعلام اللذين لا يشجعان الجمهور على القراءة، بينما لا يحتاج المُريدون في المساجد إلى وسيلة ترويج لشراء آخر كتب القرضاوي. وقد روى لي صحافي صديق أنّ أكثر الندوات الأدبية اكتظاظًا في أيام المعرض كان عدد روادها 50 شخصًا، أو يَقلّون، بينما اضطر المُنظمون إلى تكديس آلاف الوافدين لحضور ندوة لداعية إسلامي نسيت اسمه (أعتقد أنّ هذا استعلاء علماني مني). هذه معركة على الكلمة خسرناها نحن العلمانيين (أو غير المتدينين على الأقل)، ويجب أن نعترف بفشلنا: الناس بغالبيتها تحب أن تقرأ، يظل السؤال كيف نصلها وبأية أدوات نخاطبها.

لا يكفي يوم واحد لمعرض الكتاب ولا يومين ولا ثلاثة. كما لا تكفي النقود التي تجلبها معك مهما كانت (يخلف على فيزا أم محمود الدولية، ذات اللون الذهبي)، فالكتاب يجرّ آخر، وكلما انتقلت من “بسطة” دار نشر إلى أخرى، تكون مقتنعًا بأنك ستموت أمّيًا حقيرًا لو لم تشترِ هذا الكتاب الجديد، وهكذا دواليك، حتى تخرّ صريعًا إلى جانب مدخل المعرض الدولي عند شارع صلاح سالم، تنتظر أيّ تاكسي حقير كي يأخذك إلى الفندق حسن الصيت، وهذه حكاية أخرى.

البيه خرونغ؟

فقد اكتشفتُ، بتأخير كبير، كبير جدًا، والحقيقة أنني اكتشفتُ الاكتشاف الهائل التالي الآن، ليلة الأربعاء، وأنا أكتب هذه المادة، وقد مضى على عودتي من القاهرة ثلاثة أيام، إكتشفتُ أنّ سائقي التاكسيات قد “استضرطونا”، استيحاءً من اسم الفندق الذي كنا ننزل فيه: فاسمه ذو النجوم الخمس يدلّ على البَرجَزة والغنى وامتلائه بعمامات الخليج العربي الشقيق، فلا بد إذًا أننا من أصحاب الدراهم، وهم لا يعرفون أنّ تكلفة المشوار مشحوذة من مؤسسة خيرية، تركز أغلب جهدها الحضاري بتسيير البرامج التثقيفية وبناء مراكز الطفولة ودعم كاتب هذه السطور.

وحبذا لو أننا نزلنا في بانسيون في وسط البلد، بدل أن ينقسم وسطي، كما فعل أصدقاء التقيناهم في المطار عائدين إلى الوطن، وقد اتضح أنّ تكلفة ليلة واحدة في الفندق الفخم الذي قضينا فيه (لاحظوا ازدواجية المعنى في هذه الكلمة؛ يا للذكاء!) زادت بقليل عما كلفهم لقاء سبع ليالٍ بطولها في البانسيون، الذي شهدت بصدده الرفيقه أنه “منيح، وكويس وابن حلال”، مع أن زوجها تنحنح باضطراب وهو يقول: “فقط لو كانت فيه تدفئة”!

ومقام سيدي الحسين!

وها هو صديقي العزيز سيد رجب، الممثل المسرحي المصري، الذي يكتب فيلمًا سينمائيًا في هذه الأيام، وهو سبب ملتقانا سابقًا، يصحبنا في رحلة ليلية إلى خان الخليلي ومقام سيدنا الحسين (حفيد علي، وليس الملك)، ثم لنجلس إلى طاولات صغيرة تكدّسنا عليها، أم محمود وأنا، والصديق الشاعر مروان مخول ومدامه (لاحظوا ازدواجية المعنى مرة أخرى!) غصون. وكعادتي في كل مقهى طلبت السحلب وأخذ سيد يحدثنا عن المنطقة وتلابيبها، وكنتُ أنا غارقًا في تأملاتي بأنني أجلس الآن في المقهى الشهير، قهوة الفيشاوي، وأنفث دخان الشيشة من منخاريّ كالتنين، وأشعر بسعادة غامرة بأنني وسط هذا، بعيدًا عن أولمرت وبراك وخراء الحكومة الإسرائيلية، وتقرير فينوغراد (الذي اتضح فيما بعد أنه مخصي أكثر من عمير بيرتس).

إسرائيل تنخر عظامك، تحتل مساماتك، تأكل من نظرك وشمّك وإحساسك، حتى لتظن، في لحظات التعب والإنهاك اليومي، أنها هي الدنيا بعينها، لا شريكَ لها. في تلك اللحظة تذكرتُ أحدهم حين قال إنّ العرب في العالم لو بصقوا على إسرائيل كلهم لغرقت فورًا، ولكنّ ما أحزنني أنّ البيه الذي جلس قبالتي لم يسمع بهذه الدعوة للجهاد البصاقي، فألقى بصقته الكثيفة على الناصية، قبالتي، فغرقتُ أنا في قرف قشعريريّ، بدل أن تغرق إسرائيل، حسب النبوءة!

هي فوضى؟

الكل وفق إيقاع، مليء بالفوضى والارتجال، ولكنه متفق على الجميع: السيارات تخالف إشارات المرور وقوانين السّير ولكن هذا لا يزعج أحدًا: فحين يخالف الجميع أوامر الجميع، تصير المخالفة أمرًا طبيعيًا وربما حيويًا لاستتباب الأمن (في إحدى الليالي كنا عائدين من سهرة في تاكسي، وعند الناصية وقف شرطي ينظم السير، فتوقف سائق التاكسي. وقد سألته لحظتها إذا كان يحترم الإشارات الضوئية، فقال وهو ينظر إلى الشرطي الذي حاول أن يمنعه من المشي، عبثًا: إحنا على جثة، على شخص واقف ممنردش، عاوزنا نرد على إشارة؟). يصير خرق القانون والنظام الوسيلة الوحيدة للبقاء، والوسيلة الوحيدة للتنقل من مكان إلى آخر.

القاهرة “صارت بدورين”، أي بطابقين، أي أنّ الدولة بنت جسورًا (كُبري) فوق غالبية شوارع القاهرة، فصار الشارع شارعين باذن مبارك. لا يمكن أن يتخيل المرء طريقة أخرى للتنقل من دون طابقين من الشوارع، وربما ثلاثة. إنه صراع بقاء هائل، متعب، محزن، منهك. ترى التعب في كل التفاتة وفي كل كلمة. شعب هائل يركض وراء اللقمة ووراء الأوتوبيس ووراء التاكسي ووراء بعضه البعض. ولكنهم، في إنسانيتهم الرائعة، لا ينسون أن يبتسموا لك وأن يسمعوك بعض النكات، فأنت ضيفهم، يُكرمونك وتُكرمهم، ومتزقش يا راجل، إنتا حتروح فين؟

(وعلى فكرة، فيلم “هي فوضى؟”، جديد يوسف شاهين، ليس بالفيلم الهائل. مجرد نصيحة. بقشيش)

(نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 7 شباط 2008)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *