“المكانُ الشّيءُ إن دلّ عليّ”

علاء حليحل

“هكذا أنا، هكذا بالضبط، خاصةً عندما تختلط الأمور عندي، أبدأ بالحديث عن شيء ما، أستعين ببعض القصص لأشرح الفكرة، تختلط الأشياء أمامي، فأجد نفسي في مكان آخر، وتضيع الفكرة. أبدأ بالحديث عنها وعن علاقة القصص بها فتختلط الأمور أكثر، وهكذا الى أن أفقد الصلة تمامًا مع بدايات الحديث ومع أسباب سرد القصص، “على المرء أن يراوغ نفسه أحيانًا” أقول لنفسي”. بهذه الفقرة القصيرة، مع بعض الزيادات غير الضرورية جدًا، يمكن تلخيص شكل الرواية التي تحاول هذه السطور بقلم الكاتب نفسه، الإطلال عليها، في أيجاز يود أن يكون بليغًا. وينجح. “عند حضور المكان”، رواية جمال ضاهر الأولى، غامضةٌ غموض الأفكار، واضحةً وضوح النوايا. “عند حضور المكان” هي محاولة لرسم المكان من خلال الزمن، ومن خلال أمور أخرى تتعلّق بالزمن: الأولاد، الأحفاد، الجدة، الأم، الشباب، الشيخوخة، العجز والقوة، الجنس والشهوة، الرغبة في الفهم بعد عمر طويل.

حدود المكان المنشود، حضوره وطغيانه، تمنعّه وتسربه من بين حزمات الأفكار المتتالية أبدًا، تنكشف على طول الرواية، في انسياب يكاد يكون غير مرئي، شفافًا لا يحتاج لنقاطٍ وفواصلَ أو لمقدمات وتعريفات. الأبطال (وربما هو بطل واحد في النّهاية) لا تحتاج الى تعريف أو سيرة ذاتية أو حتى لأسماء. جمال ضاهر استطاع أن يرقى بالتجريدية في اللغة الى مستوى آخر من الاتقان، يجعل العام والهلامي أخ الخاص والمـُعرَّف. المكان في هذه الرواية هو آخر ما يشغل الكاتب، في ظاهر الأمر، وأكثر ما يُشغله في باطنه. ولكنه -أي المكان- الفكرة المتشكلة على هامش كل ورقة من الرواية: المكان يحضر في الأشخاص، في الأفكار، في الأفعال وفي القصص. على الأخص في القصص. هذا “الجانر” الشّعبي الذي يجعل العام خاصًا لكل طفل ولكل بالغ، ويجعل الخاص عامًا لكل راوية وراوٍ: “أريد لأيامي أن تمتلئ أحداثًا”؛ “مرور الوقت كفيل بجعل الفضيحة قصةً، قصةً ككل القصص”.

حدود المكان تنكشف على طول الرواية: “أريد أن أبقى رائحةً طيبةً في ذاكرتها”؛ “…اذا خضتها (التجربة) لا تستطيع الخروج منها”؛ “أفسح لرأسي مكانًا في التراب ليستوي مع جسدي… أريد أن أكون مستويًا كما لم أكن أبدًا”؛ “حاولت أن أكون في أمكنتها فاختل نظام يومها”؛ “أريد لأيامي أن تمتلئ أحداثًا”؛ “للمكان تأثير على قراءتي. -للمكان تأثير على ثرائي، أجابها”؛ “جدتي كانت واحدة من اللواتي قضين حياتهنّ بالتنقّل بين الأَسرّة، يوم لكل سرير”. هذه الاقتباسات هي عيّنة فقط لما يحاول الكاتب أن يعيد كتابته في المساحة المتاحة، دون اعتذار مسبق على العناء المنوط بذلك: أين يبدأ المكان وأين ينتهي، وهل المكان هو الزمن بالذات، واذا لم يكن، فلماذا نحن بحاجة الى هذا الكمّ الكبير من السّنوات لنجرؤ على محاولة فهم المكان؟.. كان هذا محمود درويش الذي قال: “… المكان الشيءُ في رحلته منّي اليّ/ المكانُ الأرضُ والتّاريخُ فيّ/ المكانُ الشّيءُ إن دلّ عليّ”.

جمال ضاهر استطاع ببراعة أن يسخّر الفن الروائي للاحتيال عليه. رواية “عند حضور المكان” لا تعبأ بقوانين الكتابة لكنها تسجد أمام قوانين السّرد. ولهذين السّببين، خرجت من تحت يديه رواية رائعة، تُقرأ في ليلة واحدة وتظل الى جانب السّرير في حالة احتجتم الى قصة طريفة-عميقة أو الى حكمةٍ عميقة-طريفة. وللتذكير فقط: الرواية تعتمد الصراحة المطلقة في طرح علامات السؤال والاستفهام، والتطرق الى ذكورتنا-أنوثتنا المزدوجة والى دورة الجنس اللانهائية التي تصنعنا ونصنعها. ربما لهذا السّبب منعت الرقابة الأردنية نشر هذه الرواية في المملكة الأردنية الهاشمية. ربما لهذا السّبب نحن بحاجة الى دار نشر تتولى تنمية الابداعات المحلية واعطاء الأعمال الأدبية الراقية -كهذه الرواية- حقّها في الحضور.

 (نُشرت هذه المقالة في يومية “الاتحاد” الصادرة في حيفا، في الملحق الأدبي في 10  كانون الأول 2000)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *