أمي، لماذا تركتم الحصان وحيدًا؟…

علاء حليحل

في فيلم “رماد” الذي أخرجته وأعدته ريما عيسى، تطرح ريما على أمها، أم فارس، الأسئلة الصعبة وتفتح المواجع وتحاول أن تفهم ما حدث لبرعم عن طريق تتبع آثار الحزن في تقاطيع وجه الوالدة * قصة حب بين الأرض وأبنائها وبين الأم وابنتها، على مسرح التهجير…

استطعت أن أتسلل يوم الخميس الماضي من شقتي المحاصرة باليأس في حيفا، مُيممًا شطر تل أبيب. كان عليّ أن أستيقظ صباحًا وأن اقرر أن السفر الى تل أبيب آمن. فأنا لا أريد أن أموت برصاص أو بمتفجرات فلسطيني من شعبي. فهذا لن يفيد القضية بشيء. إذا لم يكن بدٌ فبرصاص أو بمتفجرات أجنبي غريب. كما أنني حاولت إقناع نفسي بصحة الدعاية الاسرائيلية أنه منذ الاحتلال المجدد للجزء المتاح من فلسطين، فان العمليات في إسرائيل توقفت. من أجل ذلك تناسيت مطعم “ماتسا” ومفرق الياجور ومقهى بياليك والفلسطيني الذي فجر نفسه مع الشرطي في القدس. فاسرائيل تقول إن العمليات توقفت في اسرائيل بعد حملة “السور الواقي” (ولهذا الاسم باب خاص من الكتابة والتحليل). واذا قالت اسرائيل فانها تعني ما تقول. نقطة.

في محطة القطار المسماة تيمُنًا محطة “هشالوم” (السلام) بحثت عن سيارة أجرة. الباص لم يكن في أجندتي مطلقًا. كُلو إلا الباص. في الطريق الى السينماتك حاولت أن أربط بين التهجير من مخيم جنين الذي يحدث اليوم وبين التهجير الذي حصل من قرية برعم في النكبة. برعم التي تُشغل ريما عيسى، الطالبة في مدرسة “سام شبيغل” للسينما في القدس. ريما أخرجت وأعدت فيلمًا عن برعم. وهو ليس عن برعم بالضبط. اسمه “رماد”. عند مدخل القاعة التي من المفروض أن يعرض فيها الفيلم كانت ريما تنتظر مع والدتها نظيرة (أم فارس) ومع أخواتها. أم فارس هي بطلة الفيلم مناصفةً مع ريما. ريما تريد أن تكشط الأسئلة المزعجة عن قضية برعم وأن تفهم من والدتها ما لا يمكن أن يعرفه إلا من كان هناك. أم فارس كانت تحاول طيلة الفيلم أن تشرح لابنتها “الجاهلة” عن التهجير والقمع والأمل الذي لا يموت. مرةً بالمنيح ومرةً بالعاطل. تحكي لابنتها وفي نبرتها حزن عميق يكاد أن يصرخ في وجه ابنتها “المتعلمة”: لا يمكنك أن تفهمي أبدًا! لا يمكنك!…

***

قضية برعم هي قضية شخصية عندي. ففي قريتي، الجش، اجتمعتُ، أنا اللاجئ من قديثا، مع اللاجئين من برعم. والقليل من لاجئي اقرث أيضًا. معًا كوّنا السكان غير الأصليين في القرية. لسبب ما، لا أعرف تحديده الآن، وهو باب جديد جدير بالكتابة والتساؤل، لم نطور نحن النازحين من قديثا أسطورة العودة وحتى طقوس الزيارات. قديثا لا تعني الكثير لأبناء حمولتي اليوم، ولي أيضًا، من أجل الصدق. وكلما تذكرت الفرق الشاسع بين ما أنا عليه وبين ما ريما عيسى عليه من هذه الناحية أصبت بالذهول الخفي الصامت. برعم هي قضيتي أيضًا. ليس من منطلق التضامن الفلسطيني الواسع، وإنما من منطلق الصداقات والقصص والعلاقات والمخيمات التي أعرفها عن قرب. ريما عيسى حملت كل تلك الأمور وجلبتها الى الشاشة المضيئة في القاعة المعتمة. شعرت بالهيبة أن ريما تكشف “أسرارنا”، نحن المهجّرين، أمام الغرباء. هل سيفهمون حقًا ما ستقوله خالتي أم فارس عن برعم؟ هل يعرفون؟

***

الفيلم هو عبارة عن رحلة تساؤل واستكشاف. وهي رحلة شخصية جدًا أيضًا. فيها المحاسبة وفيها العتاب وفيها الهوة العميقة التي تنخسف أحيانًا بين ريما وأم فارس. وريما لم تَخَفْ أو تخجل من أن تحول هذه العلاقة الحميمية الخاصة المركبة الى فيلم من 35 دقيقة. ومع أن ريما اختارت أن تدور هي وكاميرتها وأسئلتها حول أمها، لتفهم وتسأل وتحاسب، إلا أنها لم تنسَ أيضًا أن الصورة لا تكتمل الا بها. هي المخرجة، المبدعة، يجب أن تكون في المقدمة أيضًا. مثل هذا القرار الذي يتخذه صانع الفيلم هو مصيري. هناك من يُتأتئ في مثل هذا القرار ويضع لمساتٍ خجولةً على الفيلم تكون غير شافية. وهناك من يعزل نفسه نهائيًا عن الفيلم. ليس هنا المجال للمفاضلة بين مختلف التوجهات، ولكن القرار الذي اتخذته ريما بزج نفسها في الفيلم حتى النخاع هو قرار صائب وحكيم جدًا. المراوحات التي كانت تدور بين ريما وأم فارس هي التي ساعدت في بناء خط درامي متوتر جعل من مشاهدة الفيلم تجربةً في الحب. حب ريما وأم فارس لبرعم وحب ريما لأمها وحب أم فارس لابنتها. رحلة الحب هذه كانت مبنية أحيانًا على الهوات وعلى الفجوات وعلى الاختلافات، ولكنها كانت صادقة. وهذا ما جعلها حقيقية أيضًا. الديكور الذي رافق هذه القصة كان صور التهجير في برعم بالأسود والأبيض وصور البيوت المهدمة الآن، وقصة “اخرجوا لخمسة عشر يومًا وستعودون بعدها”، كانت المسرح الذي عليه لم يعُدْ أحدٌ الى اليوم- اللهم الا الميتون!

***

أم فارس وامرأة أخرى تحاولان قطف الزيتون من على شجرة شبه وحيدة في أرض برعم المقفلة أمامهم، والكنيسة الى جانبهم. أم فارس تحاول أن تتذكر في أية كنيسة تكللت على أبي فارس. في كنيسة برعم تقول في البداية، بدافع من حس الانتماء. ثم تتراجع. في كنيسة الجش.. الجش.. كيف برعم؟ لم نكن نستطيع أن ندخل الى برعم وقتها. في هذا الفيلم توثيق للتهجير “المسيحي”- اذا صحّ التعبير. التهجير عندنا يرتبط بالاسلام عادةً. بالجوامع، بالشيوخ، بالأئمة، بالمجاهدين، بالشهداء، بآيات القرآن المعزية والباعثة على الصمود. ولكن القرى المسيحية التي تهجرت في النكبة لم تبرز كفايةً. لم نرَ كاهن القرية الذي فاوض اليهود، لم نرَ الكنيسة المدمرة، لم نسمع صلوات الآب والإبن، لم نرَ مواسم الزفاف الصيفية في الكنائس المهجرة ولا الجنازات الحزينة؛ لم نرَ كيف تكون فلسطين المهجرة مغمّسةً بآلام المسيح وبكاء العذراء وحزن الكنيسة. ريما عيسى تقدم لنا البعض مما لم نرَهُ أو نسمعْهُ من هذه الأمور. وفي هذا إنجاز رائعٌ ونادرٌ.

***

في الطريق الى الفيلم كنت قلقًا. ماذا بوسع ريما أن تضيفه على ما نعرفه عن قضية برعم (وإقرث. فالقضيتان مرتبطتان ارتباطًا عضويًا ولفظيًا أيضًا). ما قدمته لنا ريما ولم نكن نعرفه هو القصة الشخصية من وراء العناوين. قصة البيت والأم والوطن الجديد القسري والتفاصيل الصغيرة التي لا تنقلها أية مقابلة صحفية. وما قدمته ريما لنا ولم نكن نجرؤ على نَوْشِهِ بقلمٍ أو بحديثٍ هو أسئلة الجيل الحالي: هل هناك جدوى؟ بماذا تحلمون؟ ماذا ننتظر؟ هل سنعود حقًا؟ وإذا سمحوا لنا بالعودة، هل سنعود حقًا ونترك حياتنا وما حولها لنبدأ حياةً جديدةً؟ وفيما يخص أهلنا وأجدادنا، كان على ريما أن تسال أم فارس بوقاحة معينة وبألم: لماذا تركتم الحصان وحيدًا؟ لماذا رحلتم؟…

أم فارس قالت إنهم رحلوا لإنه قيل لهم إنهم سيعودون… ثم ماذا تعرفون أنتم أيها “المتعلمون” الصغار عما كان عندها؟… ماذا تعرفون أصلاً؟…

(نشرت هذه المادة في مجلة  “ترفزيون”، نيسان 2002)

تعليقات (0)
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *