السائح الجوّالي، عند نقطة تشارلي

“تشارلي تشيكبوينت”. يتسخم!

أحسست بقليل من الخزي حين تداعى إلى ذهني أنّ هذه ستكون زيارتي الثانية إلى برلين، عاصمة فرحي الخريفيّ. كنتُ أنظر عبر شباك الطائرة إلى الأسفل حين قررتُ أنني سأتعامل مع نفسي بجدية هذه المرة وسأقوم بجولة سياحية في المدينة، كما يليق بأيّ كاتب يدّعي الفضول وحبّ المعرفة، ولن أقضي هذا المهرجان (أيضًا) في “خيمة الكُتاب (والكاتبات)”، أشرب النبيذ وأدخن السّجائر وأحرق عرض جميع الكتاب العرب الذين لم يُدعوا إلى المهرجان، أنا وجميع الكتاب العرب الذين دُعوا إلى المهرجان.

وشاءت الصدف أن تكون محطة انطلاق الحافلات السياحية في جولتها في المدينة لصقَ فندقي إلا “شربة سيجارة”، وكنتُ قد اهتديت إليها وأنا في جولتي الأولى بعد الوصول بساعة، إذ أنني أحبّ أن أكتشف في المدن مراكز الطوارئ التي يمكن اللجوء إليها بعد الواحدة ليلا: أماكن بيع التبغ والكحول. كنتُ فخورًا بقراري السياحيّ الجريء وقد تناقشتُه مع بعض الرفاق في “خيمة الكُتاب” في المهرجان، فاستحسنه الجميع وأثنوا عليّ إلا أنّني لم أجد فردًا صمدًا منهم يقبل بالقدوم معي. قلتُ في سرّي إنني أشكر الآلهة أنني لم أخلق مثل باقي الكُتاب، كسولا ومُحبًا “للتبحيط” (التبحيط: التصاق الطيز بأيّ جسم ثابت على الأرض والتوقع بأن يمرّ العالم كله من أمامك)، وأنني لا شكّ إنسان متميز وهبته اللات والعزة موهبة الكتابة والإبداع ولم تسرق منه نشاطه وحيويته وانتباهه إلى الأمور الأخرى في العالم غير القراءة والكتابة (سنتناسى للحظة المرة الـ 674 التي قررت فيها آخر سنة البدء بحمية طعام، ومعهد اللياقة الذي انضممت إليه قبل شهر ولم تطأه قدماي بعد وإصراري على التدخين وصعودي في الوزن وعزوفي عن النشاطات الاجتماعية وتفضيل الوحدة (بفتح الواو) على الوحدة (بكسر الواو)).

إستيقظت في التاسعة صباحًا ونزلتُ إلى الإفطار. وجدت حسن وسليمان ومحمود وعلوية. ورغم تبجّحي مجددًا بجولتي المباركة إلا أنّ تصريحي ضاع وسط مناكفات حسن وعلي، وبين تبرمات علوية من الألم في ظهرها وإصرار سليمان على أنّ العرب أمة أَمَة. قلتُ يا ولد ما لك إلا نفسك، وعليك بها إن كنتَ لها، فقمت واستأذنت ويممت شطر الحافلة السياحية، بعد أن حملت حقيبتي السوداء وملأتها بالماء والسجائر وكاميرا الفيديو ومحفظتي المحشوة بعشرين يورو وبعض الفستق وورقة عليها عنوان “h&m” لشراء الملابس لدُشّة التي على الطريق.

تشارلي نكبتنا

نقدتُ الموظفة التي تقف إلى جانب الحافلة 15 يورو عزيزة فبادرني السائق فورًا بإنجليزية متعبة: “أنت من إسرائيل”؟ تحرك الصدأ في مفاصلي وتنبه الفلسطينيّ المطارَد المعشّش في خلايا الشتات وقلتُ في نفسي: “موساد”! سألته عن سؤاله، فبرطم شيئًا بإنجليزية متحطمة وأشار إلى شعري. قلت: سأحلقه ابن الداعرة فور وصولي عكا!

تربعت في الطابق الثاني من الحافلة والهواء يداعب شعري، فأحسست بروعة قراري، رغم الازدحام الطلق من حولي والبرطمات بكل لغات بابل. تحركت الحافلة وبدأت المذيعة تنشد محفوظاتها عن برلين بالألمانية والإنجليزية تباعًا، وخُيل لي أنها تقرأ جملها التي تسابق الريح والتي تحفظها عن ظهر قلب، من كتاب بين يديها. وابتسمت أكثر وأنا أتخيلها تعيد الجمل المحفوظة عن ظهر قلب وهي “مُكرّة مُفرّة مُقبلة مُدبرة معًا” فوق جسد زوجها. هنا سفارة اليابان وهنا سفارة السعودية وهنا السفارة الإيطالية. بدأ “الآكشن” يزداد حين وصلنا إلى بنايتين كبيرتين متقابلتين قالت إنّ التي على اليمين كانت مقرّ الحكم في برلين الشرقية وتلك التي على اليسار مقرّ الحكم في برلين الغربية، والشارع الذي نسير فيه كان جدار برلين المشؤوم. وفجأة مررنا من قرب مقطع من الجدار لم يهدموه، بقي للذاكرة والتذكّر (ونحن لها!)، وفي نهايته تقاطع طرق صنعوا فيه نموذجَ الثكنة العسكرية الأمريكية التي كانت تسمى في السابق “حاجز تشارلي” (تشارلي تشيكبوينت)، وقد كانت المعبر بين برلين الشرقية والغربية أثناء الحرب الباردة وقبل إسقاط الجدار الخرائي.

شعرتُ بأهمية اللحظة وبثقل التاريخ يطحن كاهلي. وقد شاءت الصدف أن تتوقف الحافلة في نقطة استراحتها الثانية عند “تشارلي”، فهرعت بكاميرا الفيديو إلى الشارع وصورت الثكنة مع “زوم إن” فنيّ يعبر عن اختلاج مشاعري المتضاربة في صدري الذي لا يزال عابقًا بالدخان من سهرة الأمس. في طريق الالتفاف إلى الباص ثانية لمحتُ “كشك” يبيعون فيه قداحات مكتوب عليها “أحبّ برلين” فتذكرت حماي وأنه يحبّ جمع القداحات التي تحمل أسماء بلدان العالم، فدفعت له يورو ونصف اليورو ومشيت نحو الحافلة. لكنّ الحافلة كانت قد اختفت وعليها، في الطابق الثاني المشمس، حقيبتي التي فيها كلّ شيء؛ فسمعت أمي تصرخ من بيتنا في الجش: “راح الصبي”!

بلـّمتُ للحظة وبدأت بحساب الموقف بسرعة كما يليق بطالب سابق في قسم الحسابات: في جيبي ثلاثة يوروهات ونصف اليورو، في يدي كاميرا وفي يدي الأخرى قصفة زيتون، وأنا أمشي وأنا أمشي وأنا أمشي، ثم تحوّل مشيي إلى ركض متفائل إذ اعتقدت لوهلة أنّ الحافلة اختفت وراء الانعطافة القادمة ولا بدّ سألحقها لو أسرعت، فلما وصلت المفترق راكضًا لم أجدها لا عن اليمين ولا عن اليسار، ولم أشمّ لحظتها (رغم ضبط أنفي على مستوى حساسية كبير) بقايا الديزل في الهواء، فتوقفت حائرًا وتذكرتُ فورًا ابنتي “دُشة” التي ستولد بعد شهرين ونيف من دون أب، فأحسستُ بالبكاء سيغمرني إلا أنني تذكرت قول أبي وجدي وجدّ جدّي وجدّ جدّه، في مثل هذه الأوقات: “إجمد!”، فجمدتُ.

قوات التدخل السريع

وبعد أن جمدتُ، وقفت في الشارع وبدأت أشير إلى سيارات التاكسي. مرت أربع أو خمس حتى توقف تاكسي كانت تقوده امرأة. دخلت التاكسي وبدأت بسؤال سريع حول إذا ما كانت تعرف مسار الخط السياحي. نظرتْ إليّ بفرح غير مفهوم وبدأت ترطن بالألمانية. أعدت السؤال عليها فازدادت ابتسامتها وهي تعيد الحديث بالألمانية. قلت: أبسّط الموضوع. “إلى الفندق” طلبت منها، “فندق إلينغتون”. سألتْ شيئا بالألمانية فأعدت: “فندق إلينغتون”. سألتْ شيئًا آخر. كان على تلك اللحظة أن تكون اللحظة المناسبة والحاسمة كي أخرج من التاكسي وأسنفر بروحي باحثًا عمّن يفكّ الخط بالإنجليزية. ولكن ابتسامتها التي كانت ترافق تساؤلاتها الألمانية أشعرتني بالأمان وأنا في حرج من موقفي العسير، فبقيتُ.

من حسن حظي أن كرت الغرفة (المفتاح) كان في جيبي فأعطيتها إياه. نظرت إليه وصاحت مبتسمة “فندق إلينغتون!” وكأنني كنت أقول لها قبل لحظات فندق أبو العبد. كنت طوال الطريق إلى الفندق أجول بنظري في الشوارع، أراقب الحافلات السياحية التي تروح وتجيء بجحافلها، وكلما مرّت حافلة كهذه أحاول التركّز في وجه السّائق الذي يعمل في “الموساد”، إلا أنّ جهودي ضاعت هباءً، فاستسلمتُ وألقيت بجسدي على الكرسي الخلفي الوثير، وعملتُ بالحكمة الأثيرة: “إذا كنتَ غارقًا في الخرى، فتمتع بدفئه على الأقل”، وهكذا ارتخيتُ طيلة الطريق إلى الفندق ولم أفكر في مسألة محاسبة الرفيقة السائقة إلا عندما توقفت أمام الفندق.

أشارت السائقة إلى المرآة، فرأيت رقمًا بالأحمر يعلن: 10.6. استفسرتُ، فأعادت الإشارة إلى المرآة، ففهمت فجأة أنّ هذا الرقم الأنيق، الأحمر، الصغير الذي يلمع على طرف المرآة إلى اليسار السفلي هو العدّاد! “يحرق أخت المسرحية”، تمتمتُ بيني وبين نفسي، حائرًا بين أن أتعجب من ارتفاع الأجرة أو أتعجب من تقدم العلم والتقنيات في بلاد “شلايدين آخسين”. أخرجتُ اليوروهات الثلاثة ونصف اليورو من جيبي وبدأتُ أصرخ على السائقة وكأنها صماء:

I will go to my room and bring you the money!

بدت السائقة متهيبة بعض الشيء من صراخي، ثم برطمت بعضًا من الألمانية فأعدتُ جملتي عليها، ولكنها ازدادت احمرارًا فازددتُ اخضرارًا (دائم الخضرة يا قلبي). في ثوانٍ انشحن الجوّ في التاكسي وبدأت أفكر في السجون الألمانية وهل هي متقدمة تكنولوجيًا مثل سيارات الأجرة، حين وجدت السائقة تسحب من يدي اليوروهات الثلاثة ونصف اليورو وتبرطم في وجهي شتيمة أعتقد أنّ ترجمتها إلى العربية يمكن أن تكون كالتالي (بتصرّف): “كس إم ربك يا منيك يا ابن المنيك!”.

لم تسمح لي كرامتي الشرقية بمثل هذه البهدلة، خاصة من غربية-إمبريالية-مصاصة دماء الشعوب، فكنتُ على وشك أن أقتبس لها من كتاب “الاستشراق”، فعدلتُ حين تذكرت أنني لم أقطع سوى 100 صفحة منه نسيتها منذ سنوات، فأعدتُ يائسًا:

I will go to my room and bring you the money!

لم يبدُ عليها أنها تأثرت أو انفعلت، فحاولتُ بما تبقى من ماء وجهي وأنا أشير بأصبعي إلى أعلى، إلى سقف التاكسي:

Room! My room! Money, money…

حين ابتعدت التاكسي وأنا واقف في مدخل الفندق وأحد عاملي الاستقبال يقف وينظر إليّ بشماتة وهو يدخن سيجارته، أحسستُ بحزن كبير، فأخرجتُ في حركة سريعة البطاقة التي تحمل اسمي والخاصة بمهرجان الأدباء وعلقتها على صدري كيف يعرف هذا الأشقر الجميل من أنا وما أهميتي في السياق الثقافي المُعوْلم، وأشعلت سيجارة ووقفت إلى جانبه أبثّ دخانها بوقار. بعد برهة تذكرت: محفظتي! ما زالت في الحافلة!

(خلص تعبت، بعدين بكمّل…)

 (نشرت هذه المادة في مدونة علاء حليحل في تاريخ 26 ايلول 2009)

 

 

 

تعليقات (1)
  1. […] فيما مضى قد كتبتُ عن التجربة المضنية التي مررتُ بها أثناء زيارتي الثانية لب… (عبير تقول دومًا إنّ كلّ النهفات الغريبة وقت السفر […]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *