“الغابة النرويجيّة”: حزن وأخلاق ومحطات قطارات باردة
انتهيت اليوم من قراءة “الغابة النرويجيّة” للياباني هاروكي موراكامي، وهي رواية فاتنة (ومضلّلة)، كما يليق بالأدب الجيّد. لن تجدوا فيها “موراكامي” الذي عهدتموه، منغمسًا في الغرائبيّات والما-ورائيّات والفوق-طبيعيّات؛ ستقرؤون رواية لا رمز فيها لكلّ ذلك إلا في إحدى فقراتها الأخيرة (وهذه متروكة لكم لاكتشافها). سيقول البعض إنّ لعبة بطل الرواية، واتانابي، في استرجاع قصة (قصص) حبّه عبر السرد الاسترجاعيّ هي لعبة غرائبيّة بحدّ ذاتها، يصحّ أن يختلط فيها الواقع بالخيال، والموجود بالمنشود. ولكن، أيّ رواية لا تحوي هذا؟
سأبدأ بالهاجس الحرفيّ الأدبيّ: يكتب موراكامي في تذييله أنّ هذه الرواية تطوير وصيغة محسّنة لرواية قصيرة قديمة كتبها في السابق اسمها “اليراعات” (سراج الليل)، وقد قرّر في استراحة بين روايتيْن أن يكتب هذه الرواية “الصغيرة” والعاطفيّة كي ينتقل بعدها إلى كتابة الرواية الطويلة القادمة (ورواياته طويلة بلا شك!). وكان من المخطط أن ينجز 300 صفحة مطبوعة إلا أنّ الأمر انتهى بـ 900 صفحة كهذه، ولتصبح هذه الرواية أشهر أعماله على الإطلاق، إذ بيعت منها 3 ملايين نسخة باليابانيّة خلال عاميْن فقط. ومن دون مقارنة (والمقامات محفوظة)، فإنّني أهدس منذ سنتيْن وأكثر بإعادة كتابة روايتي القصيرة “الأب والابن والروح التائهة“ لأنها كما قال لي القارئ الفطين نبيل الدوحا: “كتبتها بسرعة زي كئنّك بدك تتخلّص منها”. وقد اتضّح فيما بعد أنّ هذا صحيح لا شكّ. قد يبدو لي الآن مستحيلا العثور على النصّ الأصليّ للرواية القصيرة الأولى التي تحوّلت إلى “الغابة النرويجيّة”، كي أتتبّع مسارات التطوير والبناء والهدم، ولذلك لن أسعى وراء هذا النوع من البحث والتحقيق (كفاني ما حققته وبحثته مع الرفيق أحمد باشا الجزار في “أورفوار عكا“).
لذلك، سأخوض هذه التجربة وحدي، من دون دليل سبقني. سأفكّر وحدي وأتعذّب لقتل شخصية كانت في النص القديم، وسأسكر وحدي على نبيذ أديب دوحا وزهير غنادري وأنا أحتفل بولادة شخصيّة جديدة في النصّ الجديد. هل هذا أخلاقيّ؟ أن يأخذ كاتب ما عملا قديمًا وأن يعيد كتابته؟ الويكيبيدا تجزم بأخلاقيّة ذلك لا شك، ويمكن لمن يتحسّس من الموضوع فليتعامل معه ببعض الكُوليّة من باب المثل القائل: “قاعد قاعد… عشّب!”
“الغابة النرويجّة” رواية عن الحزن مع أنها لا تعطيك لثانية فرصة للبكاء أو الاكتئاب أو الغرق في مزاج سيئ. الحزن فيها عارٍ وبارد مثل محطات القطار العملاقة في المدن الكبيرة. محطات يؤمّها الملايين كلّ يوم، تتقاطع حيواتهم فيها كلّ ثانية، ولا أحد يشعر بالقرب من أحد. مثل هذا الحزن يتسلّل إليك أثناء القراءة، ولا يخدشه حتى خيارات واتانابي (طالب الجامعة في قسم المسرح) في الحياة، التي تتفاوت أحيانًا بين الاخلاص الشديد لمن يحبّ وبين سهولة الاندحاش في سرير امرأة أخرى بسهولة مطلقة، حتى بعد موت الحبيبة. ولذلك فهي رواية عن الأخلاق أيضًا، ومدى كونها فضفاضة وليّنة وعصيّة على التعريف والصوغ الحقيقيّيْن. وهل توجد أخلاق أصلاً في الحبّ والرغبة والجنس؟ أليس الجمع بينهما ضربًا من ضروب الوصاية الذكوريّة الأبويّة التي اخترعت الملكيّة الخاصّة وجنّدتها لوقف تعدد الأزواج (نعم، الأزواج) وكبت المرأة وربطها بجانب المطبخ؟
الرواية مليئة بالإشارات إلى الثقافة الغربيّة التي نهل منها موراكامي حتى عودته النهائيّة إلى اليابان منتصف سنوات التسعين: البيلتز وأغنيتهم “الغابة النرويجيّة” التي أخذ منها عنوان الرواية؛ أدب أمريكيّ يحبّه موراكامي وهو مرجعيّته الأدبيّة الأولى، وأهمّهم فرنسيس سكوت فيتزجيرالد وروايته “الليلة الناعمة” و”جاتسبي العظيم”. وهناك من يقول إنّ موراكامي لا يكتب عن اليابان بشكل حقيقيّ أو أصيل “أوثنتيك”، بسبب تأثره الكبير بالحضارة الغربيّة، لكنّ من باع لليابانيّين 3 ملايين نسخة في سنتين استطاع برأيي أن يقبض على اللحظة المطلقة والمقطّرة التي تتالف منها العلاقة السحريّة بين القارئ والنص في اندماج كبير ومُعبّر.
قرأت “الغابة النرويجيّة” بالعبريّة لعدم قدرتي على تحصيل الترجمة العربيّة، التي وضعها سعيد الغانمي وصدرت عن المركز الثقافيّ العربيّ عام 2006 بـ 398 صفحة. سأضطرّ للاستناد إلى أمانة النقل في النسخة التي قرأتها، وأنا أميل لذلك، إذ أنّ الترجمة تمّت عن اليابانيّة مباشرة وفي نهاية الرواية تذييلان كتبهما موراكامي نفسه وواحد للمترجم. ولذلك لن أتطرّق إلى لغة المترجم وأسلوبه وخياراته في النقل، فهي لن تعني للكثيرين من القراء شيئًا.
(ومن دون علاقة مباشرة: استمعت إلى هذا المقطع لإبراهيم معلوف من عمله الجديد وأنا أكتب هذا النص، ولربما تودّون فعل ذلك أيضًا، أو ربما الاستماع إليه خارج سياق النص…)