300 كلمة في اليوم (18): ضِخام وغير مرئيّين
ثمة توتر أزليّ في صناعة المونودراما (مسرحية الممثل/ة الواحد/ة): كيف يمكن كتابة وإخراج وتمثيل عمل مسرحيّ معاصر من دون اللجوء إلى السرد، الحكي المباشر، الذي يُعتبر أحد نقائض ونقاط الوهن البارزة في الدراما المعاصرة؟
يكمن هذا السؤال، جليًّا، في مركز المونودراما الجديدة “هش”، (دراماتورجيا وإخراج: بشار مرقص، تمثيل: هنري إندراوس)، التي حاول مرقص فيها حلّ هذا السؤال المركزيّ عبر تقنيات مسرحية مغايرة ومثيرة للفضول والمتعة الفرجويّة. هذه التقنيات تضافرت مع أداء وحضور هنري الممتازين، كالعادة، وبعد هذه المونودراما الأولى له يثبت هنري أنّه ممثل متميّز وممتاز حتى حين يكون وحده على الخشبة- وليس في ضمن طاقم.
رغم أنّها صُنّفت كمونودراما، إلّا أنّ الانطباع النهائيّ عن هذه المسرحيّة، لي على الأقلّ، هو أنّها عمل فنيّ إنشائيّ (installation art) يميل بأثره المتبقي بعد المشاهدة، ومنطق صنعه، إلى الفن التشكيليّ المعاصر أكثر من ميله إلى المسرح. أنا أقول هذا كإطراء، خصوصًا أنّ بشار مرقص يشتغل في المسرح كما لو أنّه استوديو للرسم أو للتصميم البصريّ؛ الميزانسين عنده قماش للرسم، والعناصر المسرحية كلها (الممثلون بالأساس) هم الألوان (وفي هذا العمل: مع سينوغرافيا مجدلة خوري الممتازة).
يستعيد العمل “هش” مواقف وذكريات ومشاهد كلاستروفوبيّة، تتعلق بالوزن الزائد (جدًّا)، وهي تجربة شخصية عاشها كل من المخرج والممثل فيما مضى، تعود الآن لتُشرَّح وتُستعاد في ضمن ثيمة “أشخاص غير مرئيّين” التي انطلق موسم “خشبة” الثالث بها. الأشخاص السّمينون (نقولها من دون خزعبلات البوليتكالي كوريكت البولشيتيّة) يعانون الوحدة ويقعون في مخالب العزلة واللجوء إلى أحلام اليقظة، لتُختزل ممارساتهم اليوميّة في أسئلة لا نهائية حول “هل آكل هذه الموزة الآن؟” هذه ثيمة حساسة ومؤلمة لكنّ “هش” لا تقع في التسطيح أو التنكيت على “الشواذ والمختلفين” كمصدر للتندّر، بل تنجح في التنقل برشاقة ومهنيّة بين الخاص المؤلم، والخاص المثير للضحك المرّ.
كونه العرض الأول، يجدر الانتباه إلى التكرارات والإطالات هنا وهناك، وتخلّي هنري عن بطء حركاته (محور الشخصيّة) في الجزء الأخير. تصاعد الدراما مع تباطؤ الحركة يمكن أن يخلق أثرًا أكبر وأبقى لدى المشاهد من جهة تطوّر الأزمة وحدّتها.
(لتدوينات الـ “300 كلمة” السابقة)