300 كلمة في اليوم (17): ياباي شو عباله يسمع!
من الدروس الأولى في السينما أهمية الموسيقى كعنصر رابط بين المقاطع والأمكنة. يمكنك ربط مشهد يحدث في عكا مع آخر في اليابان، مثلا، إذا كانت الموسيقى تنبعث من مذياع وتستمرّ في اللقطة القادمة البعيدة. فجأة ينشأ رابط خفيّ شفاف بين المكانيْن، ويرمز بخفة وذكاء إلى وجود رابط أكبر لاحقا.
تذكرت هذا وأنا أقرأ رسالة الأسير حسن كراجة التي أرسلها إلى موقع “معازف” ونشرت تحت عنوان “ياباي شو عبالي أسمع”، ويتحدّث فيها عن الموسيقى في السجن (معتقل عوفر). عن الحرمان منها بالأساس. نصّ نادر استطاع بتفاصيله الحياتيّة الصغيرة أن يجسّد مفهوم الحرية من أوسع أبوابها: تلك الحرية التي إذا سلبوك منها فإنهم يسلبونك القدرة على سماع مقطع من أغنية تشتهيها، وفجأة تصير للموسيقى قدرة هائلة على تكثيف ما يعنيه تحوّل العادي والمبتذل إلى أمر ذي شأن.
هل لاحظتم النكهة الخاصة لأغنية نحبّها حين تأتي على الراديو رغم قدرتنا على سماعها متى شئنا؟ والد أحد أصدقائي في الجش قال مرة لي وله: “الأغاني في الكاسيتات هيّي معلبات بتفتحها وينتا بدك… بس الأغاني في الراديو هيي وجبة طازة شهية دوبها طالعة من الفرن”. تخيلوا الآن أن يسمع حسن المقطع الذي يشتهيه من أغنية أم كلثوم (“كنت بأشتاق لك وأنا وانت هنا…”)، في اللحظة التي يشتهيها. ألن تكون أجمل وأشهى بألف مرة من لو أنّها معه على سي دي؟
يصف كراجة الصعوبات في السجن أمام سماع الموسيقى: سطوة الأوقات والسجانين؛ تخلق المسجلات والراديوهات الموجودة؛ الديسكات السيئة؛ مراعاة نوم ويقظة الآخرين في الزنازين المزدحمة. “مدافن الأحياء” كما يصفها في رسالته.
لو كنا في فيلم لكانت أغنية “هدير البوسطة” التي تلعب الآن في “فتوش”، ودحدوح بجانبي، ستنقلنا بلحظة إلى معتقل عوفر، حيث كراجة يحاول تصويب لاقط المذياع للدرجة الصحيحة، فيما يتحرجم حوله الشباب بحماسة بالغة.
لكننا لسنا في فيلم، ومعتقل عوفر يحاول قتل الموسيقى كما يقتل أيام كراجة وساعاته. لكنّه سيخرج غدًا من المعتقل وسيسمع ما يحبّ، متى يحلو له. أيّ أغنية ستكون الأولى يا ترى؟
(لتدوينات الـ “300 كلمة” السابقة)