300 كلمة في اليوم (15): بيروت سقطتنا!
من “أبعص” الشغلات التي ستعود بها علينا استقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة اللبنانيّة، أنّ السياسة اللبنانيّة المنفّرة ومستنقع بيروت الطائفيّ سيعودان إلى حياتنا بحدّة لبعض الوقت. بيروت بدأت سقوطها الرسميّ كحاضرة عربيّة معاصرة ورائدة منذ اتفاق الطائف، لتغرق بطائفيّة مقيتة ألقت بتأثيرها السلبيّ والقاتل على المحيط العربيّ برمّته. سقوط مؤلم ويحزّ في النفس، تمامًا مثلما كشفت ثورة 25 يناير عن الوجه الحقيقيّ للإعلام المصريّ والسياسة المصريّة: فجأة تحوّلت “أمّ الدنيا” التي كبرنا عليها على أنّها “الأخت الكبرى”، إلى خيبة الحارة المُخزية.
تتكسّر بيروت منذ سنوات ونحن نرى صورتنا تتكسّر في شقوقها؛ كنا نتألّم في البداية، نتابع بشغف ما كتبته “الأخبار” وما نشرته “السفير” وما بثته “المستقبل”، وكنتَ تجد في الناصرة ويافا وحيفا فلسطينيّين يعرفون بتمام الدقة متى يستيقظ ميشيل عون من نومه، ومتى يخلد سماحة السيد للنوم، ومتى يشعل جنبلاط أرغيلته، ومتى يتثاءب جبران باسيل. كانت بيروت وسياساتها جذابة كثيرًا: صحافة مطبوعة وإعلام متلفز وإذاعيّ عصريّان، يتموّلان بأموال نفطيّة غزيرة (نفط عربيّ خليجيّ ونفط أيرانيّ).. مجتمع يرقص ويسكر ويطرب رغم الحروبات والويلات، وكنا نطرب مع لبنان ولا نأبه بأنّ كل الساحة السياسيّة اللبنانيّة ليست إلّا ساحة خلفية ودمًى تحرّكها دمًى أكبر.
لكنّ لبنان سقط في حفرة لا يمكن لأحد أن يتخيّل طريق الخروج منها. صراعات مبنية على طوائف وأديان لا تخجل من طائفيتها ولا من قبليتها الدينيّة المتخلّفة؛ رجال ببدل وسيارات عصريّة ونساء بفساتين سواريه ومينيهات ضيقة يجترّون بالفرنسيّة والإنجليزيّة خطابات طائفيّة متخلّفة على شاكلة “داعش” و”طالبان”، في تناقض مريب كان حتى سنوات أخيرة خدّاعًا ومخاتلًا، وكنا نسمّيه “الحالة اللبنانيّة المركّبة”. لكنه لم يعد. لم يعد لبنان مغريًا وجذابًا في تناقضاته، بل صار عاهة مستديمة بشعة تلقي بظلال تخلّفها وتأخّرها الحضاريّ والثقافيّ، وبكمية هائلة من البشاعة على عالمنا العربيّ.
سعد الحريري يختلف عن باقي الدمى اللبنانيّة بأنّه أكثر تفاهة وسطحيّة وغباءً من غيره. لكن في مستنقع طائفيّ ومتخلّف، أليست الدمى الغبيّة موازية للدمى الذكيّة والخبيثة؟
(لتدوينات الـ “300 كلمة” السابقة)