300 كلمة في اليوم (14): جدّتي علياء وموسم الزيتون
أنا لا أحبّ موسم الزيتون.
كنتُ في الجش طفلًا “غير جسديّ”، أحبّ القراءة والكتابة والبرامج الإنكليزية المترجمة على قناة “سعد حدّاد”. ومنذ أن أخذوني أوّل مرة إلى موسم الزيتون، كرهت هذه العمليّة السيزيفيّة لالتقاط أعداد لا تحصى من الحبّ الأخضر، ومنعنا من ضرب الأغصان بالعصيّ أو “مَشْق” الحبّات مع الأوراق دفعاتٍ دفعاتٍ، لأنّ شجرة الزيتون مُقدّسة جاءت في القرآن، ولا يجوز ضربها أو إهانتها (لا أعرف لماذا لم يحرص الناس مثل هذا الحرص على أشجار التين، الواردة في القرآن أيضًا).
في كلّ سنة كانت النسائم الباردة الليليّة في الجش، نهايات أيلول، تبعث فيّ قشعريرة عميقة، لسبب أيجابيّ لا مجال لذكره الآن، ولارتباط البشائر بموسم الزيتون. أعتقد أنّ الكثيرين ممّن يحبّون موسم الزيتون، يحبّونه للذكريات الجميلة التي راكموها: لمّة العائلة لأيام في الأرض؛ تناول طنجرة المجدّرة وفحول البصل بلا حساب؛ وتكديس “شوالات” الزيتون السمينة في التراكتور أو طَنْدَر البيجو في تشييعها المُفرح نحو مثواها الأخير للمعصرة.
أستطيع أن أفهم كلّ ذلك، لكنّ هذه الأيام العصيبة تركت في نفسي أثرًا سلبيًّا لا يُمّحى، خصوصًا بعد ذلك اليوم المشؤوم عام 1984 على ما أذكر. أجبرني الراحل ممدوح ابن خالي، صديق ورفيق الطفولة، على التباري والتسابق وعَدِّ كَمْ سيجمع كلُّ واحد منا خلال ربع ساعة. كان ممدوح يعرف بالتأكيد تقاعسي وكسلي المتعلقيْن بالزيتون، وكما كان متوقعًا فقد غلبني شرّ غلبة في أقلّ من خمس دقائق. كان أحباطي في تلك اللحظة قاتلًا: ألا يكفي أنني أنتقع هنا في كرم جدي أحمد كلّ النهار في أمر أكرهه، ويأتي ممدوح الآن ليُمَرْمِغ سمعتي بتراب الوطن الحبيب؟
مددت يدي بسرعة خاطفة إلى حُرج جدتي علياء، أم أمّي، وخطفت كمشة زيتون كبيرة ووضعتها في سطل “الآما” الصغير الذي كنت أحمله. نظرتْ جدتي إليّ بغضب كبير وصرخت عليّ: “يا هامل! مش عيب عليك؟”
بكيت بسرعة كعادتي وأنا صغير. لم أبكِ بسبب تغلب ممدوح عليّ؛ لكنّها كانت المرة الأولى التي تصرخ بها عليّ جدّتي علياء الغالية. وكلّ ذلك بسبب حفنة زيتون!
(لتدوينات الـ “300 كلمة” السابقة)