صورة العام 2014: مخيم اسمه اليرموك/ علاء حليحل
>
|علاء حليحل|
سأختار صورة اللاجئين الفلسطينيّين الذين ينتظرون إعانة وكالة الغوث في مخيم اليرموك السوريّ، صورةَ عام 2014. إنها صورة الضياع الأكبر، “الرحيل الأكبر” كما يسمّيه درويش، رحيل يمكث في الأرض لكنه يأخذ الروح بعيدًا عن الجسد. تتشظّى فلسطين نتفًا في هذه الصورة، كأنّها لم تكن يومًا، مع أنّها ماثلة في البؤس والحزن والمذلّة منذ أبد الآبدين.
يجب على صورة العام أن تكون فائقة “الجماليّة”: لا بدّ من حُسن آسرٍ يجعل من الحزن المُعشش في الصورة (أو الفرح)، عملاً فنيًّا متميّزًا شديد التميّز. لا صورة للعام من دون جمالية. وهذه الصورة “جميلة” جدًا. لا بؤس (اليوم، في عصرنا) من دون صورة “ذكيّة” أو لقطة “غير اعتياديّة”. ولماذا نرفض أن يكون البؤس جميلاً؟ ولماذا لا تكون الأبنية المتهدّمة في النصف الأعلى من الصورة “جميلةً”، فتأسر اللبّ وتجعل الرائي يتمهّل أمام هذه المشهد القائم على حُسن الكومبيزيشن ودور الضوء الحاسم في بناء اللحظة. كأنها سخرية قاتلة: أكثر أيام هؤلاء الناس ظلمًا وقتامةً يُخلَّد في صورة تسبح بضوء الشمس العاتي، الدافئ، المستكين.
في منتصف الصورة السفليّ (بالعرض) رجل يقف في المنتصف تمامًا. يرتدي “لفحة” عادية وجاكيت بنيًّا (خاكي؟) وينظر إلى العدسة مباشرة. شخص غير هام (للوهلة الأولى) في صورة مليئة بالآلاف الممتدّين حتى نهاية الإطار إلى الأعلى. لكنه هامٌ جدًا. إنه الفلسطينيّ الواقف في المركز الناظر إلينا. ليس حاضرًا بما يكفي، لكنه ليس غائبًا. ينظر وترى وجهه مليئًا بالكلام، لكنّه صامت. حاضر غائب بامتياز.
في هذه الصورة مفارقة تصويريّة: الخلفية البعيدة، غير واضحة المعالم تمامًا، أهمّ وأقوى من المقدّمة القريبة من العدسة، من الوجوه البيِّنة المعالم. مقدمة الصورة هي الأقل أهميّة؛ الخلفية، الطابور اللانهائيّ من البشر في الخلفيّة هو الذي يعطي للصورة أهميّتها. ليست الوجوه القريبة، بتفاصيلها الإنسانيّة، بل بالرؤوس المتراصّة معدومة الهويّة. إنها صورة شخصية بامتياز للفلسطينيّ. بلا ملامح فرديّة، بل بحضور جماعيّ غفير يليق بالقصّة: اللجوء، الهجيج، الحصارات، التشرّد.
بيوت مهدّمة وأخرى على وشك السقوط هي الديكور الصامت. الحشد من اليمين يقف تحت مسطبة بيت ليس من المؤكّد أنه لن يقع على رؤوسهم. يحتمون بالسقف أم أنه نهايتهم؟ جذع شجرة يابس في منتصف الخلفيّة ينتصب باردًا بين الجموع التي لا تنتهي. لو وضعها مَثّال تجريديّ هناك لقالوا عن هذا العمل الفنيّ إنه مباشر ومبتذل ويلعب على موتيف الشجرة التي ظلت وحيدة ويابسة بعد أن هجرها أهلها. هل كانت يابسة هكذا دومًا أم أنها نائمة في السبات البارد؟
الشمس الساطعة في كانون الثاني البارد “تحرق” السماء من فوقهم. لا سماء، لا تفاصيل، لا سحاب، مجرّد أبيض ناجم عن “انكشاف” زائد عن حدّه في معطيات الكاميرا. وهذا الرأس الوحيد المستدير للناس في زاوية الصورة اليسرى إلى الأسفل: هل هو من تزحف الجياع نحوه؟ بيده الدفء والطعام؟ من هذا؟ لماذا ينظر للخلف؟ أهو حنظلة المشهد أم مجرّد أب يبحث عن ابنته التي ضلّت بين الجموع؟ هل ينحني للأمام لالتقاط ولد صغير يمتدّ بجسده إليه؟ يكاد هذا التفصيل أن يكون التفصيل الإنسانيّ الوحيد؛ الحركة الوحيدة في هذه الصورة.
صورة فلسطينيّة حقيقيّة. جموع من الفلسطينيّين تحت سماء محترقة وبين مبان مهدّمة وكلهم في طابور من أجل حفنة أرز وبطانية للشتاء.