نصٌ للشتاءِ
(لا يقرأه إلا الثعابين)
الشتاءُ هو الشهوةُ، لأنّ الشهوةَ حنينٌ إلى ارتعاشاتِ الجسدِ، والمطرُ ارتعاشاتُ الشتاءِ. في الشتاءِ يتفتّح الجّسدُ حينَ تنامُ الأشجارُ؛ فالعلاقة عكسية ٌ وهي عصية ٌ على الفهمِ إلا في حَضرةِ الجّسدِ. خُذوا جسدًا وألقوه في يَمِّ البردِ فتستيقظُ مسامُه. تبحثُ عن مَسامَّ أخرى تُؤنِسُها، عن جسدٍ آخرَ يعبثُ بهذه المساماتِ فيُسليها ويَحكي لها قصصًا عن الحبِّ والجنس، نهايتُها سعيدة (مُبكية). الشتاءُ اقترابُ الجّسدِ من أصُولِهِ، مِن درايتِه بأعضائِه وتفصيلاتِها، مِن معرفتِه بفتحاتِ اليقظةِ والنعاسِ حين تدْلهمُّ الغيومُ ويتزاحمُ المطرُ على أبوابِ الرائحةِ.
الشتاءُ قناعةُ الجَّسدِ بأنّ البردَ حليفٌ وليس غريمًا، بأنّ المطرَ صديقٌ وليس عدوًا، بأنّ هذهِ الرائحة الرطبة الممتلئة هواءً مُقيمًا، هي نعمة ٌ وليست نقمة ً. الشتاءُ حنينُ الأصول إلى مُرادفاتِها وهو انبهارُ الأنفِ بروائحَ بدئيةٍ تتفتحُ في مساءٍ عابقٍ بالرّذاذ الخجلِ، بمشروعٍ لليلةٍ ماطرةٍ ستعيدُ الفرحة إلى الأغطية الشتوية الثقيلة. الشتاءُ حكاية ُ المَددِ التي تَحكيها القطراتُ السّاقطة ُ على الشّعرِ وعلى الأحذيةِ وعلى أكفِّ الأيادي الهاربة إلى مَوْئلٍ في الجّيوب المزدحمة بالنقودِ وعلب السّجائر والقدّاحات وأوراق العشق والكهرباء وتدوينات الأفكار السّابحة في الجوّ، الهاربة من ملل الشمس الساطعة.
*
الشتاءُ هو البحثُ عن الحقيقةِ في كذبةِ الشّمس الساطعةِ.
*
الشتاءُ هو الصباحُ. رعشة الجَّسد المصدوم بالبرد الصباحيِّ عند الخروج من تحت الغطاء السّميكِ (إلي إلى لِما شبقتني؟)، تضاهي رعشتَه وهو ينتفضُ لذة، حين يُفرغ حبّه في جسد الآخر المُستسلم للغيم. تلك الرعشة التي تتحايلُ على نشاط الجسد المُفتعَل، تصدمُه، تجعله يُعيدُ الغطاء إلى الجَّسدِ المُتمدِّدِ تحتَ سطوة حلمه الشبقيِّ الطازج، تجعله يبحث عن دفءٍ نابضٍ عنيف ينبعث في ثعابين البطن المتلوية، أسفله وداخله. الشتاء ثعابيننا الباحثة عن يد أخرى تبحثُ عن رعشة صباحية شتوية، هي الأخرى. يدان اثنتان تبحثان عن لذة الآخر، من دون جنس، من دون قُبل، من دون احتكاكٍ. يدٌ ويدٌ وثعبانٌ ومَخبأ مُظلم يختبئ تحت غابةٍ سوداءَ من القصائد.
*
هكذا يصيرُ الشتاءُ اكتفاءً!
*
إنها مؤامرة الصباح الصامتة، جسدٌ يحتكّ بجسدٍ، يبحث عن معنى لتكوّرات عجيزة نسائية في تحدُّبات جسد رجولي، يندمجان معًا في نومة “ملعقة”، يتكوّران في بعضهما البعض، يصمتان وهما يبتسمان لحركة القضيب المُستيقظ يتحسَّسُ برأسه المُتنامي عجيزةَ التي تستديرُ إليه بكامل فتحاتها، تستقبلُ انتصابه بالضغطِ عليه، بحبس الدّم في رأسِه، بليِّ رأس القضيب الذي انتفخ الآن استعدادًا للهروب من البرد نحو مَوئِله الحار، الرطب، المفتوح لشهوته العارمة الصباحية. تلك هي مضاجعة الصباح السريعة، الهادئة، شبه الناعسة. لا شيءَ مُستيقظًا إلا القضيبُ وثغرُها السُفليُّ المُبتسمُ بشفتيه النابضتيْن. إنه الولوجُ والخروجُ ببُطءٍ، بحساسيةٍ مُرهفةٍ، بخفة الثعبان المُنسَلِّ إلى جحره، من دون ضجة، من دون ضجيج، من دون تفاصيل وكلامِ حُبٍّ بذيءٍ، حريصًا على ألا يُوقظ أحدًا في الجوار. فهذه اللحظاتُ لهما فقط، ليسَ للجَّسديْن النائميْن- اليقظيْن، بل لها، للقضيبِ، وله، للمِهبل الحارِّ المُتيقظِ يقظةَ حمارِ الوحشِ. ليسَ أجملُ مِن مُضاجعة الصّباح الشتوية، حين تتملك الشهوةُ زمامَ الأمور، فتنتهي الأمور بسرعةٍ لأنَّ الشهوة لا تنتظرُ. الشهوةُ لا تنتظر أحدًا، تتملّك الوتيرة والحركة والنوايا.
طوبى لمن تملّكت شهوتهم زمام أمورهم في صباح شتوي، فأغدقوها سيلاً حارًا غامرًا بين شفتي المهبل المُكتنزتيْن. فهذا اليوم ليس للعمل وليس للدراسة وليس للتبضع وليس للاستجمام وليس للخروج وليس للدخول وليس للطبخ وليس للنفخ وليس للسياقة وليس لركوب الحافلات وليس للقطارات وليس للسفر البعيد وليس للسفر القريب وليس للجنازات وليس للأعراس وليس للزيارات وليس لجبر الخواطر وليس لكسر الخواطر وليس للمجاملات وليس للقاءات وليس للمقاهي وليس للمطاعم وليس للجلوس مع أرغيلة على الناصية وليس للتسكع وليس للتهندم وليس للتغندر وليس للإسراع وليس للإبطاء وليس للسعي وليس للعامة وليس للخاصة وليس للتلفاز وليس للصحف وليس للكتب وليس للحاسوب وليس للكتابة وليس للقراءة وليس للمحادثات الهاتفية وليس للدواوين تُعقد على شبابيك الحارة وليس للشائعات تُقال على عجل وخوف وليس للأخبار تأتي ممّن لم نُزوّد وليس للتشاؤم وليس للتفاؤل وليس للتفكير وليس للتدبير وليس للترزق وليس للإقدام وليس للهروب وليس لفعل الخير وليس لفعل السوء وليس لأيّ أحد يطرق أيَّ باب. فهذا اليومُ للشتاءِ…
رائحة الأرض والشجر الذي يستعد للنوم… ارتطام المطر بالمطر، وارتطام الجسد بالجسد. لا أعرف أيَّ الصوتين أجمل: ارتطام المطر بالأرض، بالشجر، بالرخام، بالأرصفة، أم صوت ارتطام الجسد بالجسد، صوت اللحم ينغرز في اللحم، صوت اللحم يستقبل اللحم وينفتح على مساماته الصارخة بألف أغنية: أغنية للخوف، أغنية للبرد، أغنية للشهوة، أغنية للشكّ، أغنية لليقين، أغنية للحياة، أغنية للموت، أغنية للثورة، أغنية للخنوع، أغنية للجنس، أغنية للحب، أغنية لمهبلها، أغنية لقضيبه، أغنية للأصابع المتحسسة لمدخل مؤخرة عاشقة ترتفع وتنزل على أيقاع الولوج والخروج، أغنية لبصمات الماريحوانا في هذه المضاجعة تسير على مهلٍ كأنّ الريح ليست تحتهما، وكأن القلق ليس تحتهما، وكأنّ الشاعر لم يصرخ في عتمة الليل: وجدتُها! وجدتُها! وجدتُ حلمتها في عتمة الضياع!!
شتاءٌ يهبّ الآن فوق مِئذنة صومعتهما. يُصليان في اليوم مضاجعتيْن وفي الليل مضاجعات. يُسبّحان اسم خالق هذا الجسد وهذه الشهوة، وهذا المطر العنيد المُنسال على جدران أيمانهما العميق، بأنهما ليسا إلا ريحًا تهبّ على ديار العاشقين، فتصير ديارهم بردًا وسلامًا. شتاءٌ يهبّ على جسدين فيصيران شعوذة مُربكة تثور على قوانين الجسد: فبعد النهاية الخامسة يستيقظ الجسد المنهك وينتصب كي يلقي السلام على جنة العشق بين فخذيها، كأنه شاب صنديد لا يكلُّ ولا يملُّ. يصير الجسد وحشًا يريد أن يفرغ روحه في روحها، في جسدها، يصير فظًا قاسيًا عنيفًا، يودّ لو يملأ كلَّ ثقوب العشق فيها، يودّ لو يغمر داخلها بسوائله الحارة كي يستيقظ رحمها ويصرخ تباعًا: أنا هنا، أنا هنا، فهاتِ أكثر ولا تبخل يا شقي. وينتصب الشقي ولا يحترس، فالقلب لا يحتمل هذه الشقاوة، والجسد على وشك أن يهرم وعلى وشك أن ينهزم وينهار تحت وطأة تناور الجسدين، فتارة هي فوق وتارة هو فوق، وتارة ينامان كملعقتين ملتصقتين، ويودّان لو يهدأ البنزين في محركيهما، فيغنيان تهليلة للنوم وتهليلة للسفر إلى راحة مُرتجاة. الشتاء تعب لذيذ وسرير حار لا يبرد.
الشتاء عودة الروح إلى منابعها. الشتاء منبع العودة إلى الروح…
الشتاء فرج مفتوح على مصراعيه لقصيب منتصب على مصراعيه، يودّان لو ينام الواحد في الآخر، ويؤلفان معًا لحنًا لتأوّهات العشق من لهاثها، ومن رائحة سوائلهما التي تنهمر كالنبيذ احتفاءً بقُرب الرجفة المرجوة.
الشتاء مهبل وقضيب يلعبان ببعضهما البعض ويلعبان لبعضهما البعض؛ الشتاء يدها التي تداعب القضيب ولسانها الذي يداعب القضيب وفمها الذي يلتهم القضيب؛ الشتاء يده التي تداعب المهبل ولسانه الذي يلحس المهبل وفمه الذي يلتهم المهبل. الشتاء مؤامرة رذيلة ضد الفضيلة.
الشتاء ليلة القدر، امتدّت على فصل كامل!
(22 كانون الأول، عام المطر)