مطلوب: 18 بقرة لإنعاش الشعب الفلسطيني/ علاء حليحل
لو دقّق المرء قليلاً، فسيرى أنّ شريط “المطلوبون الـ 18” لعامر الشوملي، يتشارك في إحدى ثيماته الأساسيّة مع شريط “سينما باراديسو” لجوزيبي تورناتوري: العودة إلى الماضي الجميل من أجل قول شيء ما عن الراهن (الأقلّ جمالاً). في “براديسو”، يستخدم تورناتوري موضوع سينما القرية القديمة مكانًا وفضاءً تُروى من خلاله قصّة الماضي وانعكاسه في الرّاهن، فيما يستخدم الشوملي موضوع البقرات الـ18 وقصّتها في بيت ساحور إبان الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى لرواية قصة الحلم الفلسطينيّ بانتفاضة شعبيّة وإرادة جماعيّة ومقاومة مدنيّة ناجعة ومُربكة للمحتلّ. ومع أنّ شريط “المطلوبون الـ18” مليء بلحظات الفرح والضحك والابتسام (حتى الحزين والأسود منها)، إلا أنه يبدأ في الصحراء وينتهي فيها. إنها الصحراء ذاتها التي نعيشها اليوم كفلسطينيّين، رغم أنّ الشوملي يُصرّ على التمسّك بالأمل والاستمرار بالبحث.
البقرات الناطقات
سيناريو “المطلوبون الـ18” (والأصحّ: المطلوبات الـ18!) من أفضل السيناريوهات المكتوبة لشريط فلسطينيّ والتي شاهدتها على الشاشة في السنوات الأخيرة. لقد نجح بول كوان بجدارة ومهنيّة عالية بتدعيم قصة الشوملي وبناء سيناريو مشوّق وغنيّ بالتفاصيل، رشيق وسلس، وفي الوقت ذاته عميق ومثير للمشاعر والانفعالات والتفكير. نصّ سينمائيّ نادر في قدرته على التقاط الأقوى والأذكى والأفضل لتطوّر الحبكة، ولا أذكر أنّ عينيَّ دمعتا في نهاية شريط سينمائيّ منذ زمن بعيد. “المطلوبون الـ18” شريط وثائقيّ/ تسجيليّ وفق تعريفه، إلا أنّه يجنح في الكثير من لحظاته وفي الانطباع العام الذي يتركه نحو النمط الروائيّ، وبالإمكان تصنيفه (بشكل عامّ وغير دقيق للغاية) تحت فئة “المُوكيُومِنتاري” (التوثيق الساخر). وتنبع قوة السيناريو أيضًا من أنسنة البقرات الـ18 والتعامل معهنّ بطبيعيّة كاملة ومن دون تكلّف أو مبالغة أو خجل من أنّ تلك البقرات هي في النهاية بقرات ناطقات، تمامًا كما في “كليلة ودُمنة” و”ألف ليلة وليلة”. ولذلك، أنا أرى أنّ الجانر (Genre) الذي يُعبّر بأفضل شكل عن هذا الشريط هو جانر “الواقعيّة السحريّة”، وهو بهذا من الأفلام الفلسطينيّة النادرة التي تتّخذ هذا المنحى. وبهذا المعنى، فإنّ الشوملي ينضمّ إلى إيليا سليمان الذي أبدع بدوره حتى الآن ثلاثيّته المتينة التي استندت في أساسها إلى هذا الجانر، وخاصّة “يد إلهيّة”.
في مهمّته الأولى والأساسيّة، وهي السرد، يستند الشريط إلى عدّة تقنيّات محورها الأول والأخير: الاسترجاع. والشوملي يفعل ذلك من خلال الرسم (الصور الثابتة) والمقاطع المُخرَجة لسرديّات من الماضي، والمخرج السارد (Narrating)، والحوارات “الصحافيّة” مع أبطال القصة الحقيقيّين، وبالطبع: تقنيّة التحريك في أحد أنماطها البارزة المعروفة باسم Stop motion. في هذا الدمج طرحٌ (مقصود أو غير مقصود) لمفهوم “الحقيقة” العصيّ على التعريف. فهل يمكن التعامل مع الحوارات التي تدور بين البقرات في مقاطع التحريك باعتبارها حقيقة؟ وهل هذا السؤال يهمّ حقًا؟ أليست أنسنة البقرات “تفاهمًا” مسكوتًا عليه بين الشوملي والمشاهدين، بأنه خيال واضح ومفضوح، رغم أنه بالإمكان اعتباره واقعًا محتملاً كجزء من الواقع العبثيّ الكبير الذي تدور في فضائه القصة؟
اركضي يارا، اركضي!
تتمحور قصّة الشريط حول مبادرة اللجنة الزراعيّة في بيت ساحور في أثناء الانتفاضة الأولى، لشراء 18 بقرة من بلدة إسرائيليّة زراعيّة لسدّ حاجة السكان من الحليب بغية مقاطعة حليب شركة “تنوفا” الإسرائيليّة. ومنذ اللحظة الأولى، تشعر البقرات المُدلّلات في الكيبوتس بالهلع لفكرة نقلها إلى مكان آخر، ويزداد هلعها حين الوصول إلى بلدة فلسطينيّة – إلى الأعداء. إنه الهلع الإسرائيليّ التقليديّ من “الفلسطينيّ المخرِّب” أو “الإرهابي” والاستعلاء والفوقيّة، يورده الشوملي في قالب ساخر كوميديّ على لسان البقر يتفوق على الكثير من المقالات والتحليلات الرصينة. لكنّ ما يحدث مع البقرات أمر مثير جدًا في الشريط: فبعد استقرارها في المزرعة وولادة أول عجل في الأراضي الفلسطينيّة، تنشأ ألفة واعتياد على الحياة، ثم تتطوّر هذه الألفة إلى وحدة حال في عمليّة مطاردة الاحتلال للبقرات وضرورة اختبائها في بيت ساحور لمنع الجنود من القبض عليها. وبذلك، تعيش البقرات “الإسرائيليّات” رحلة عذاب سببها ملاحقة الاحتلال، إلى أنّ يطرأ تغيير حادّ ومباشر عند تصوير الجنديّ للبقرات في المبنى الذي تمكث فيه. وبسبب قسوة الجندي مع عجلة صغيرة، تقول له إحدى البقرات: “لا يمكنك فعل ذلك! إنها مجرّد طفلة!”. وعندما تلد إحدى البقرات (جولدي) توأميْن ويموت أحدهما ثم تموت هي، تبكي معها المرأة الفلسطينيّة. وفي نهاية الشريط، عند تحميل البقرات الأربع التي تبقّت في النهاية إلى الملحمة لذبحها، تدفع البقرة الأم ابنتها “يارا” للسقوط من الشاحنة وتأمرها بقسوة باكية: “اركضي يارا، اركضي!”.
تفكير استثنائي
تشكّل “مبادرة البقرات” معضلة بحدّ ذاتها: شراء أداة الحريّة من المحتلّ نفسه؛ أي أنّ حلّ المشكلة يأتي من داخلها، قال هؤلاء النشطاء، وهم بذلك قد سبقوا بشكل فعليّ كلّ التطوّرات النظريّة والفكريّة التي حلّت على مفهوم الاستشراق: من مواجهة كتيمة بين أبيض وأسود إلى تفاعل غريب عجيب ينتج عنه واقع مثير ومركّب يؤثّر على المحتلّ وعلى الخاضع للاحتلال (الكولونياليّ) في الوقت ذاته. هذا تفكير استثنائيّ لا نكاد نراه اليوم. وقد برز حتى في بعض ردود الفعل الممتعضة على وجود شخصيْن إسرائيليّيْن في الشريط يتحدّثان إلى الكاميرا، والاثنان من أصحاب المناصب الاحتلاليّة والعسكريّة وقتها. لكنّ وجود هذين الإسرائيلييْن بشحمهما ولحمهما في شريط يروي “رواية فلسطينيّة” هو أمر في غاية الأهميّة لسببيْن: لا يمكن رواية قصة فلسطين وفضائها بمعزل عن الإسرائيليّ/ المحتلّ؛ أمّا السبب الثاني فهو ما قاله هذان المسؤولان العسكريّان: لقد صاغا العبثيّة الكبيرة في القصة بكلمات بسيطة وواضحة بالعبريّة: تعاملنا مع مبادرة البقرات والاكتفاء الذاتي من الحليب بأنه خطر على أمن دولة إسرائيل! إنّ حضور هذيْن الشخصيْن والبقرات “الإسرائيليّة” في الشريط أمر غير مألوف في صناعة السينما الفلسطينيّة، إلا إذا كان الإسرائيليّ “معنا” تمامًا، وفي حالة “المطلوبون الـ18” يحضر الجانب الإسرائيليّ بشكل ذكيّ ودقيق وبما يخدم حبكة الشريط ومقولته النهائيّة، وهو يعبّر عن نضج سرديّ وسياسيّ في تناولنا لقصّتنا/ قصّتهم.
مَن يبحث عن المقولة الكامنة في هذه التغيّرات، فسيجدها: تعالوا وعيشوا معنا تحت الاحتلال وستفهمون تمامًا لماذا ننتفض. لكنّ الرسالة الأقوى والأكبر في الشريط هي رغبة أعضاء اللجان الشعبيّة وقتها في بيت ساحور بإثبات قدرة الشعب الفلسطينيّ على انتزاع الاعتراف بقدراته ووجوده ونضاله، والحفاظ على كرامته. كيف ندفع الضرائب لمن يحتلّنا، يتساءلون في الشريط، وكيف نشتري البضائع الإسرائيليّة التي تدعم قمعنا؟ لقد أعادت هذه المبادرة التي استمرت قرابة 4 سنوات الكرامة والحضور للمقاومة المدنيّة، التي شكّلت عبر اللجان الشعبيّة بالأساس أحد مداميك الانتفاضة الأولى الهامّة: “الانتفاضة أكبر من رشق الحجارة وإشعال الدواليب”، يقول د. ماجد نصار في الشريط عن موقف مرّ به وقتها: كان يقف أمام بيته وينظّف الشارع، فتوقفت دوريّة جنود واستغربت قيامه بهذا، لدرجة استدعائه إلى التحقيق في اليوم الذي تلاه، ثم الذي تلاه وهكذا، إلى أن حوّل المكوث الإجباريّ في الثكنة العسكريّة، وهو ورفاقه، كلّ يوم، إلى جلسات قراءة ومطالعة، ثم تناول الغداء والشيّ. لم يسمحوا للاحتلال بأن يكسرهم.
ولعلّ ساعات منع التجوّل الذي كان يفرضه الاحتلال لكسر شوكة المبادرة، كانت أكثر المقاطع ساحريّة وتفاؤلاً في الشريط: فقد اتفق كلّ الأهالي على تشغيل الراديوهات الساعة الواحدة بعد الظهر، موعد أغنية أم كلثوم اليوميّة، والخروج للشرفات وتناول الطعام والتندّر والطرب وشرب العرق. ورغم المصاعب والاعتقالات التي رافقت المبادرة، إلا أنّ الشعور العام كان بالانتصار- إلى أن وقّع ياسر عرفات اتفاقيّات أوسلو في أيلول 1993.
بداية ونهاية
يبدأ الشريط بتصوير مبدع العمل عامر الشوملي وهو يتسلّق جبلاً في صحراء بيت ساحور (القدس) ومعه محفظة قماشيّة صغيرة، ويروي بصيغة المتكلم بعضًا من تاريخه الشخصيّ في المخيم في سوريا. ثم ينتهي الشريط بمقتل أنطون الشوملي، ابن عم عامر، في التظاهرة الأخيرة ضد مؤتمر مدريد، وهرب البقرة الصغيرة “يارا” من الشاحنة ولجوئها إلى الصحراء. وفي العودة الثانية للصحراء، وهي قفلة الشريط، نفهم أنّ الشوملي يسعى في الصحراء باحثًا عن “يارا” لأنه ما زال مصدّقًا بأنها موجودة فيها، تعيش وحدها مختبئة، رغم مرور عشرين عامًا على القصة. كلّنا يبحث عن “يارا” بمفهوم معيّن، تلك البقرة الصغيرة التي تمثّل صدق القضية وخلاصتها وكلّ ما تحمله من قناعات ومبادئ.
كلّ الصحارى في العالم حارّة وملتهبة، إلاّ الصحراء الفلسطينيّة التي تلفّنا: باردة ومعتمة.
المطلوبون الـ 18/ 2014/ 75 دقيقة • كندا/ فلسطين/ فرنسا • إخراج: عامر الشوملي وبول كوان • إنتاج: أينا فيشمن، سائد أنضوني، دومينيك برنارد ونتالي كلاوتر • الجهات المنتجة: Intuitive Pictures ، National Film Board of Canada، Bellota Films ودار أفلام • تحريك: عامر الشوملي، ميشيل لانين، دومينيك كوتيه ومريم إلدا • توليف: أوبي فوجليا • تصوير: دانيئيل فيلينيف وجيرمان جوتيريز • موسيقى: بينوا تشاريست