تعايُش
يجب أن أتحدث معه. فالأمر لم يعد يحتمل التأجيل، حتى لو أنه لا يعرفني أو لم يسمع بي. سأتصل به وسأقول: يتكلّم أنا وأريد منك “إكسًا ووايًا وزِدًا”. هكذا، بصراحة ومن غير مواربة، وإذا تلعثم أو استهجن المكالمة فإنني سأغيّر من لهجتي. سأقول له: إسمع، نحن عرب ونفهم على بعضنا البعض. كل ما أطلبه منك هو “إكسٌ ووايٌ وزدٌّ” وكفى. أنا متأكد من أنه سيصغي فمن المفروض أنه قائد شجاع وهمام ويصغي للبشر. وأنا فلسطيني، سيستمع إليّ بالتأكيد، وإذا لم يستمع فقد يحق لي أن أسأل ساعتها: فما الذي جرى، يا ترى؟
أصلا، كل الذي أطلبه منه هو أن يبتعد عن هنا. لا تعقيد في الأمر. يمكنه أن يصوّب حممه نحو الخضيرة أو العفولة أو حتى نتانيا. ما السيء في هذه المدن؟ تصطفل يا أخي. لماذا حيفا بالضرورة؟ فحيفا مليئة بالعرب. تجدهم في كل مكان: في المقاهي والبارات والمساجد والكنائس والشوارع والباصات. الباصات! الباصات مليئة بالعرب يا أخي، تنغل نغلاً، تطفح طفحًا، تفيض فيضًا. والعرب فقراء ورواد الباصات من الفقراء. والفقراء هم الذي يأكلون الخراء في دولة اليهود وأول من يتسخّمون تاريخيًا. يأكلون ولا يجدون الحلوى لترطيب أفواههم. سأقول له ذلك، وهو سيفهمني بالتأكيد. لا بد أن يفهمني. فأنا فلسطيني مثلي مثله، والفلسطيني للفلسطيني سندٌ، وعونٌ وعضدٌ. وكلنا في الهواء سواء، ولنا في البرتقالة شقان لا يفترقان.
فنحن الفلسطينيين، على اختلاف مشاربنا ومذاهبنا وانتماءاتنا الجغرافية، مثلنا كمثل المرأة التي اشترت لزوجها ربطتي عنق، هديةً لعيد ميلاده. فما كان منه في اليوم التالي إلا أن ارتدى إحدى الربطتين الجديدتين. فلما رأته زوجته قالت مندهشة: لماذا تلبس هذه، ألم تعجبك الثانية؟ فأسقطَ في يده وقلبه ولسانه!
فمن جهة، وأنا أحسبها الآن، قد يجوز أن الصواب في أن أبعث إليه برسالة، بدلا من الهاتف. فقد يتذرع بأن الهواتف مراقبة أو قد يقول مساعده إنه لا يتحدث في الهواتف ليصعّب عليهم معرفة مكانه. ولكنني أعتقد أنهم يعرفون مكان سكناه. فهذه هينة جدًا. ولكن قد يكون أنه لا يبيت في بيته أو أنه دائم التنقل من مكان إلى آخر لتفادي أخطارهم، فاستحسنتُ الفكرة والمؤدى.
المهم، أنّ قراري قرّ الآن على أن أبعث له برسالة. أخرجت دفتر الخربشات الأصفر والقلم الأسود الذي أكنّ له كل الإخلاص وكتبت:
“إلى حضرة القائد المحترم،
تحية وبعد.
الموضوع: أنا أكره العمليات في حيفا.
لا شك في أن حضرتكم يعلم أن هناك أكثر من 35000 عربي يسكنون في حيفا. ولا شك أيضًا في أنك تعرف أن الشباب الفلسطينيين الذين تبعثون بهم لينفجروا في شوارع دولة اليهود، يفجرون أنفسهم أحيانًا في شوارع حيفا.
أيها القائد العزيز، أرجوك ألا تشكّك في وطنيّتي وإخلاصي للقضية. أنا فلسطيني ملتزم وبحماس منقع النظير. ولكن هل سيكون مبالغًا به لو طلبت من حضرتكم ألا ترسلوا الشباب إلى حيفا؟.. ليس لأنني أخاف على حياتي شخصيًا، صدقني. ولكنني لا أحبّ كل الأحاديث التي تدور بعد ذلك عن “التعايش” بين اليهود والعرب في حيفا. أكرهها كما أكره البحر ورائحته.
أرجو ألا تفهمني بشكل خاطئ. ولك منّي بالغ التحيات والشكر…”
قرأتُ الرسالة بتمعّن. أعجبني مقطع: “وبحماس منقع النظير”، لأنّ فيه كلمة “حماس” ولكن في سياق آخر، ولكن لا بد أنها ستؤثر عليه في اللاوعي لأنها اسم حركته وحبيبته المفداة. قرأت الرسالة مرة ثالثة. جيدة. لا أعرف إذا كنت سأبقي على قضية أنني أكره البحر ورائحته. فقائدنا غزاوي وقد يكون مغرمًا بالبحر والساحل، على عكسي، أنا الفلاح المتقاعد، سليل الجبال والوديان والتلال، مفتقرٍ لأيّ رأسمال. وأنا بصراحة لا أريد أن أدخل في دوّامة النزاع الأزلي بين أهل الساحل وأهل الجبل. فهذا زائد الآن ولا يفيد أحدًا. بالمرة. كل ما أطلبه الآن هو أن يولي طلبي الأهمية اللائقة، وأن ينظر إليه بعين الرضى والتفهم. ولذلك فإنني سأحذف قضية البحر.
قرأت الرسالة للمرة الرابعة. جيدة. قد يجوز أنّ عليّ الاستغناء عن مقطع “.. الشباب الفلسطينيين الذين تبعثون بهم لينفجروا في شوارع دولة اليهود”. فقد يرى في هذا المقطع تقييمًا مني ونقدًا مباشرًا عليه وعلى حركته. وهذا سيخلق لا شك توترًا غير مطلوب وغير محمود الآن. ماذا يعنيني الآن إذا كانوا هم من يرسلون الشباب أم أن الشباب هم من يطلبون منهم ويتوسّلونهم أن يكونوا الآتين في الدور إلى الجنة؟ لا يعنيني أبدًا. صحيح أنني فلسطيني، ولكنني أقطن في حيفا، ولا أعرف حيثيات وتراكمات الاسقاطات الحتمية لما يعانيه أخوتي في المناطق المحتلة. والذي يده في النار ليس كمن يده في الماء. ومن يأكل العصي ليس كمن يعدّها. والذي يأخذ أمي، لا يكون إلا عمي. فقلت: أشطب هذا المقطع، فشطبته.
ثم قرأت الرسالة للمرة الخامسة. كنت في رضىً شبه تام عمّا كتبته ولكنني رأيت من المناسب أن أتنازل عن مقطع: “أرجو ألا تفهمني بشكل خاطئ”، لأنه قد يُشتم منه أنّ فهمه لا يستوعب ما أقوله، وهذا سيءٌ جدًا في مراسلة تتم للمرة الأولى بين فلسطينيين. فحذفت المقطع ورأيت أنّ ما فعلته حسنًا، فانفعلت. فقلت: أقرأها مرة سادسة. فالعجلة من الشيطان وشرّ البلاء أسرعه والشطيرة التي أحضرها النادل الآن محشوّة بالبصل. ناديت عليه بهدوء وطلبت منه أن يفرغها من البصل لأنني لا أحب البصل النيء. أحبه مطبوخًا. فمنذ أن دحش زميلي إياه، فحل البصل إياه، في المظاهرة إياها، في فمي إياه، بعد إطلاق الغاز المُسيّل للدموع إياه، وأنا أكره البصل النيء. أذكر الآن أنني تقيّات أمعائي على أرض فلسطين التاريخية، ليس من الغاز، بل من قطع البصل الكبيرة التي علقت في منخاريّ وقصبتي الهوائية. وهكذا صرت أكره البصل، بحيث لم يكن رفضي له تبَرجُزًا لحفظ رائحة فمي للحظات الحميمية التي قد تدهمني على حين غرّة، بل كان رفضي نابعًا عن مظاهر بوست- صدامية تدهمني على حين غرة فتفسد عليّ شهيّتي.
وعندما تأخر النادل في تنقية شطيرتي من البصل النيء قلت أقرأ الرسالة مرة سابعة، فقرأتها. فتوجستُ قليلاً. فماذا لو ظنّ أنها من “الشاباك” المخابراتي؟ هذا جائز جدًا. فقد يرى فيها تجربةً ما أو توريطًا له في مأزق سياسي. تعالوا نحسبها: لو أنه استجاب للرسالة وأوقف العمليات في حيفا فإنه سيلقى معارضةً، إن لم تكن عاصفةً فإنها ستكون بناءةً لا شك. فكيف يمكن استثناء حيفا من أهداف العمليات التفجيرية/ الانتحارية/ الاستشهادية/ النوعية؟ أفي براز حيفا خرزة زرقاء؟ ومن جهة أخرى قد يطيب الاعتقاد أنّ هذا الطلب ليس إلا تمويهًا لمؤامرة “فتحاوية” تسعى لشهر عرضه في شوارع القدس- مدينة الصلاة. بمعنى: ألم ترَ كيف فعل شيخك بأصحاب العويل، فجعلهم في تهليل (والتهليل للطبطبة)؟
بعد القراءة الثامنة تأبّطتُ حيرةً. قلتُ أحملها إلى صديقتي التي لم تعد صديقتي، مع أنها صديقتي، ولتحكم هي. فهي تقرض القانون والقضاء وفيها من الحكمة والحنكة ما قد يجعل الجدار الفاصل أمثولةً للرائين، طينُه من طين، وأسلاكُه من عجين. فلمّا أمسى المساء جاءت إليّ كعادتها، فتطارحنا العتاب وقلت أسألها، فسألتُها. فقرأتِ الرسالةَ وقالت من دون ريب: حمار! فقلت: ولماذا؟ فقالت: و”الشاباك”؟ قلت: ما له “الشاباك”؟ قالت: إذا قبضوا على الرسالة سيظنون أنّ لك مشورة عند الشيخ، ولرغباتك بكّاءات في قفصه الصدري. فقلت: فاتتني هذه والله، فقالت: يفوتك الكثير ولا تتعلم. فلمحت في جوابها تلميحًا غليظًا إلى فراقنا الأخير، فتجاهلتُ تلميحها، فحذتْ حذو النساء في عدم استسلامهنّ لتجاهلك لتلميحاتهنّ وأردفت بنبرة أقوى وأشدّ من الأولى: حمار!
فلما أصبح الصبح وأنا في عداد الحمير، يممتُ شطر وادي النسناس العربي القُحّي وقلت أفطر على طاجنٍ من الحمص والفول لأعود للنوم بعد الموقعة، فلا يصح بعد الحمص والفول إلا النوم. (وفي رواية أخرى: لا يصحّ إلا الغطاط في النوم- والأمران سِيّان.) وفيما كنتُ منهمكًا في ضرب الحصار المحكم بقطعة الخبز المحكمة على بقعة الزيت الخضراء المضمّخة بدم الزيتون، فاجأني صوت المذيع المتلفز يعلن عن خبرٍ عاجلٍ بعبرية سامية طلقة: إنفجار في حيفا! يا إلهي، يا إلهي، إنفجار في حيفا! إخص!! إذ كيف يصحّ ذلك؟ أينها لترى أنني لستُ حمارًا، أينَها لتعتذر ملء مهانتها عن ملء مهانتي؟ لو كنت أرسلت الرسالة إلى الشيخ لما حصل ما حصل! يا إلهي، ستطوف غدًا الطواقم المتلفزة والورقية والأثيرية في حيفا، هنا، قرب مطعم الحمص والفول، لتسأل العرب عن شعورهم حول العملية وما إذا كان ذلك سيؤثر على التعايش. كل ذلك وأنا ما زلتُ محكمًا القبضة على بقعة الزيت الخضراء، غامسًا يدي في الصحن، ومثبتًا عينيّ في التلفاز: العملية في الباص المؤدي للجامعة، وأخي في الباص المؤدي إلى الجامعة.
هرولت إلى الشارع مضطربًا، وعندها فقط تأكدت من أنها على حق. فأنا حمار. لو كنتُ اقتنعتُ بابتهالاتها لكي أقتني هاتفًا محمولاً لما كنتُ الآن أركض في الشارع كالأبله أبحث عن هاتف عمومي أبله يحملني عبر الخطوط البلهاء إلى حضن صوت أخي الدافئ. فلما كللتُ من البحث اتكلتُ على الباري وقلتُ: أعود إلى المطعم، فعدتُ. فلما جلستُ جاءت صاحبة المطعم وقالت: قهوة؟ فقلت لها: الحساب. فقالت: كذا وكذا، فنقدتها كذا وكذا من الشيكلات ويمّمتُ صعودًا نحو بيتي الكائن عند أسفل قدمي الكرمل. في البيت وجدتُ أخي، لم يمسسه بشرٌ. فقلت: الحمد أنك بلا دنسٍ من الدماء، فقال: والحمد أنك كذا. فارتحنا وجلسنا نرقب الدماء على الدماء. ثم قال: اتصلوا بك من الجريدة العبرية. يريدون أن يسألوك عن تأثير العملية على التعايش بين العرب واليهود في حيفا. فقلتُ: قل لهم حذارِ من جوعي ومن غضبي! وتحسّرتُ على صحن الحمص بالفول الذي لم أنتهكه إلا قليلاً، وأنشدتُ لبقعة الزيت الخضراء الأصلية، ما أنشده الشاعر:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني / وبيض الهند تقطر من دمي
فوددتُ تقبيل السيوف لأنها / لمعت، كبارق ثغرك المتبسّمِ
(القصة حازت الجائزة الثانية في مسابقة صحيفة “السفير” اللبنانية للقصة القصيرة، في تموز 2004)